بقلم : فهد سليمان الشقيران
لم تكن علاقة الإنسان القديم بالآلة إلا حيويةً ومهيمناً عليها وما تمردت عليه. الأدوات الطبيعية في الكسر، والطحن، والنجارة، والحرث، هي أدوات بسيطة، ولم تشكّل تحدياً له، بل مسخرة له، وفي القرآن بسورة الحديد «وألنّا له الحديد»، بمعنى أن الآلة هي الموضوع وهي متاحة له.
بعد الثورات العلمية، بخاصةٍ الثورة الصناعية، بات الإنسان في أزمةٍ مع العلم؛ ثمة تقنيات جديدة توشك أن تخترق وجوده، كما استطردتُ في المقال الماضي حول قول الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر عن التقنية، إذ وصفها بـ«ميتافيزيقا العصر»، وهو الذي لم يشهد كل هذا الهول من التجدد التقني والتصاعد العلمي، فضلاً عن الروبوت الذي يقوم بعمليات جراحية دقيقة، وحلّ محلّ الإنسان في بعض الصيدليات، حيث يستطيع صرف الدواء، وربما يأخذ العديد من المهن من يد الإنسان، ولذلك قال هيدغر إن الإنسان سيكون رهينة الآلة بدلاً من كون الآلة عبر التاريخ رهينة له، وهو تحوّل موضع درس وبحث، والآن موضوع الذكاء الاصطناعي هو بوصلة أساسية بحثية لدى دول عديدة بالعالم.
أرى أن لا داعي للخوف من هذا التطوّر، لأن الإنسان بطبيعته جُبِل على التأقلم وتكوينه متماهٍ مع المستجدات، بل على العكس فإن تحديات التقنية عبر التاريخ جعلت الإنسان يطوّر من وجوده بسبب التحديات المستجدة. طوال التاريخ كان الإنسان جديراً بالتحدي، وهو القادر على فهم الجديد ودرسه، ومن ثم التأقلم معه، ومن بعد ذلك تجاوزه حتى يأتي تحدٍ آخر. بالتأكيد سينعكس موضوع التطوّر التكنولوجي عليه، ولكن لا بد من التأقلم العام معه، وذلك على ضربين اثنين، أولهما: مثلما أثّرت الثورة الصناعية على نوعيات العمل التي يقوم بها الإنسان؛ فرص عمل عديدة فقدها بسبب اختراع العديد من الآلات، فإن الذكاء الاصطناعي سيغلق العديد من التخصصات العلمية وعلينا درس هذا الموضوع والاستعداد له، ثانيهما: أن الذكاء الاصطناعي مفيد برأيي لأنه يفتح تحدياً كبيراً وجديداً طال أمد انتظاره، وخلاصته: هل يستطيع الإنسان أن يقوم بأمر لا تقوم به الآلة؟!
قبل أيام كتب الزميل الأستاذ ممدوح المهيني بهذه الصحيفة مقالةً بعنوان: «هل يهزم الذكاء الاصطناعي الصحافيين؟». وهو سؤال مهم أقتبس من إجابته عليه: «يتعامل البعض باستخفاف مع الصحافيين وكأنه يمكن الاستغناء عنهم بمجرد أن تحدث ثورة تقنية أو تهب موضة جديدة. مؤخراً قالوا إن الذكاء الاصطناعي قادر على تبديل الصحافيين ووضعهم على الرف كتحفة قديمة تذكّر بالماضي، أو كحوض أسماك زينة. لكن، في الواقع هذه مبالغات متكررة، ويعود السبب في ذلك إلى مهنة الصحافة نفسها. فهي نادٍ مفتوح وبإمكان الجميع أن يشترك فيه ويأخذ عضويته؛ الأمر الذي يجعل البعض يعتقد أنها مهنة يسيرة. لكن الأمر أعقد من ذلك، الصحافة مهمة إبداعية مثل الكتابة وكرة القدم والتجارة تحتاج إلى أن تملك الغريزة والمهارة والدأب».
وهذا صحيح. من المستحيل أن يذهب الروبوت للساحل الأفريقي لتغطية أعمال تنظيم «القاعدة»، أو أن يبتكر نظريّة حول النسبية، أو أن يفجّر مقولة فلسفية، بالنهاية يمكنه أن يقوم بمهماتٍ كبيرة وتأخذ حيّزاً من عمل الإنسان الأداتي هذا مفهوم، ولكن فيما يتعلق بالعمل المركّب ذي الجهد العقلي المعطى للإنسان فإن هذا ضرب من الجنون، إن أخطر ما في الإنسان هو عقله ودماغه، ولا يمكن تعويضه بالآلة، ستظلّ الآلة والتقنية موضوعاً مسانداً ومساعداً، ولكن لن تستطيعا أخذ دوره الحيوي بالمعنى الوجودي والدنيوي، إنها علاقة تغالب بين الإنسان والآلة.
الخلاصة أن الذكاء الاصطناعي يمثّل ذروة التقدم العلمي الحديث؛ نتعامل معه وندرسه من دون وجلٍ ولا خوف، فهو تقدم مفيد والتعامل معه يجب أن يكون مؤسسياً، لكن الذعر منه، أو الارتياب، لن يفيدا، والإنسان عبر التاريخ بقي صديقاً للآلة وليس عدواً لها، إنه ينتفع بها ويروّضها - إن استطاع - ويتعايش معها.