توقيت القاهرة المحلي 16:35:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

نهاية خطاب متهالك

  مصر اليوم -

نهاية خطاب متهالك

بقلم : فهد سليمان الشقيران

يمثل الدكتور فهمي جدعان تجربة بحثية مهمة في الفكر العربي الحديث، عبر إسهاماته الفكرية ومنها سفراه «أسس التقدم عند مفكري الإسلام» و«المحنة - جدلية الديني والسياسي» اللذان تفوقا على كتبه وأبحاثه الأخرى، بسبب أهمية الموضوعين وقيمة السؤالين. وما طرحه حول الديني والسياسي كان مهماً وما يقاربه موضع طرحٍ في الفكر الغربي ومنه الفرنسي من قبل بما عُرف ببحوث «السلطة والمعرفة» بشكلٍ واضح لدى فوكو، وعلق عليها جيل دلوز من بعده، إذ خصص للموضوع دراسة يتداخل فيها مع موضوع السلطة والمعرفة لدى فوكو.
في برنامج «محاور» على قناة «فرانس 24» أُجري مع الدكتور جدعان لقاء تناول فيه كثير من الموضوعات وقد توزَّع الحوار على جانبين؛ أحدهما معرفي، والآخر له بعده السجالي والسياسي.
يطرح جدعان في البرنامج فكرة غريبة، إذ يقول إن من عيوب الفلسفة أنها لا تنتج حلولاً. والواقع أن الفلسفة لم تكن مهمتها مطلقاً البحث في نقاط اتفاق أو الدفاع عن ذروة مطلقة مشتركة يمكن للجميع أن يمتثلها، فالفلسفة فضاء للسؤال من دون قيد أو شرط، ولذلك فإن الفلسفات تتخالف بقدر ما تتعاضد، والمفهوم الواحد يتم تناوله عبر صيغ متحولة تبعاً للمنهج. كل فلسفة تعرّف نفسها انطلاقاً من منهاجها ومن عدة أسئلتها ومن هدف بحثها، لذلك صيغ الاختلاف الفلسفي حتى داخل الفلسفات ذات المنطلق المتشابه كما في الاختلاف داخل «المثالية» بين كانط وفيخته وشلنغ وهيغل، أو حتى «الوضعية» و«فلسفات الاختلاف»، وليست وظيفة الفلسفة لا تدمير اليقين ولا تثبيته، وإنما وظيفتها الأساسية السؤال، وهذه بدهية يعلمها المبتدئ في المجال الفلسفي.
ثم شن الدكتور هجوماً كاسحاً على المثقف العربي، بسبب «خضوعه للسلطة». يرى جدعان أن أحوال بعض المثقفين العرب الاجتماعية والاقتصادية جعلتهم ينضوون مع دول و«ديكتاتوريات» داعمة، ثم ابتدره المذيع بسؤال للتأكيد: هل تقصد أنظمة سياسية؟! فأجاب بنعم.
تبرير جدعان لنقده لهم أن هذا الانضواء قد سبّب نوعاً من «الكسل المعرفي» بالإضافة للبعد عن نقد الأنظمة السياسية العربية مع أنه «ضد الثورة» وإنما مع التغيير التدريجي. تمنيت أن يطرح الدكتور أمثلة للأنظمة التي تدعم، وما نوع الدعم المقصود؟! هل يعارض كتابة المثقفين العرب ومشاركتهم في مراكز الدراسات عبر المحاضرات والترجمات والبحوث؟! هل يعترض جدعان على كتابة المثقف العربي في صحف خليجية؟! هل ينتقد مشاركتهم في المهرجانات الثقافية الدورية؟!
النقد الأوضح في لقاء جدعان ما يتعلق بموقف بعض المثقفين من القضية الفلسطينية، بوصفها بالنسبة إليهم ليست أولوية، والأغرب أن جدعان يستغرب من «حريتهم» في قول مثل هذه الآراء وهو هنا يلمّح لمفكرين في دول الخليج ومصر. المثقف جدعان يستغرب من «الحرية» المكفولة للإنسان بتعبيره عن رأيه السياسي، ويتمنى في مُضمر خطابه أن يُلجم المفكر الذي يختلف معه في بعض القضايا والأولويات السياسية!
هذا الهجوم منسجم مع مقالة لجدعان كتبها في صحيفة «العربي» بتاريخ 19 مايو (أيار) 2019 بعنوان: «الأوغاد». المقال مقذع ومليء بالهجاء والشتم، وأسلوب هذه الجريدة لا يتحمل إيراد شتائمه، لكن سأختار الجزء الأكثر هدوءاً من كلامه، يقول: «عصبة من الأوغاد تحتل ساحات الإعلام ومنابر الرأي... تتضافر وتوجه حمقها ودناءتها وذلها إلى جملة (المعاني الرمزية) التي تقوّم (الذات العربية)، وتضفي عليها القيمة والمعنى. رموز التاريخ تُنعت بـ(الحقيرة)، والمقدس الديني يحوّل إلى خرافة، والوطن – الهوية يصبح (خارج الطاولة، العرب الأوغاد) يقولون إن القضية الفلسطينية لم تعد تهمهم، وإن لبني صهيون الحق في فلسطين»!
كان من الممكن لجدعان أن يعبّر عن رأيه من دون توتر، وأن يشرح وجهة نظرة بأقصى ما يمكن من وضوح، ولكن من دون النزول إلى لغة لا تليق.
من مآزق خطاب جدعان التفوق البحثي مقابل النقص الفلسفي، والهجوم على المثقف العربي القادر على تكوين علاقات جيدة مع مؤسسات ثقافية وإعلامية وسياسية، ومن ثم الإقذاع في الهجوم على من تكوّنت لديهم قناعات معيّنة تجاه القضايا السياسية ومنها قضية فلسطين.
جدعان يمثل جيلاً من المفكرين الغاضبين من دول الخليج منذ زمنٍ بعيد بسبب تأثرها الإيجابي بالغرب من جهة، وشعبيتها الاجتماعية من جهة أخرى؛ أولئك المثقفين الحالمين الذين لا تزال في نفوسهم غصّة من هذا الانطلاق الذي تفوقت به دول الخليج مقابل انهيار آيديولوجياتهم القديمة، وتراجع أحزابهم، وربما بيان نهضة الخليج لخلل وعطّل شعاراتهم وأفكارهم.
لقد تجاوزت الأجيال الحالية نقاش المثقفين وقضاياهم التي يريدون للآخرين تقديسها، نحن أمام تصاعد لموضوعاتٍ تهم الأجيال، وبالتأكيد فإن الثقافة والمثقفين وقضاياهم (بشكلها التقليدي) ليست منها.
أتمنى من جدعان، ومَن يشبهه في الخطاب، الاطلاع على «الرؤى» الاقتصادية للسعودية والإمارات والبحرين، وأن يعيد متابعة إطلاق المسبار الإماراتي الذي وصل إلى مدار المريخ، هذه النجاحات لم تأتِ بسبب ندوات المثقفين المملّة والفارغة وإنما بعملٍ دؤوب واستراتيجياتٍ طموحة، وفكر خارق فوق مستوى أحلام المثقفين وقضاياهم وأوهامهم.
هذه هي القصة باختصار، لقد ولّى زمن، وجاء زمن آخر يختلف جذرياً عن الخطاب المتهالك القديم، لكنّ الكثير من المثقفين لا يودّون الاعتراف بهذا التجاوز الكبير.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نهاية خطاب متهالك نهاية خطاب متهالك



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 01:58 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تربح 31.4 مليار جنيه خلال شهر أغسطس

GMT 23:21 2020 الأربعاء ,26 آب / أغسطس

بورصة بيروت تغلق على تحسّن بنسبة 0.37%

GMT 13:08 2020 الإثنين ,24 شباط / فبراير

7 قواعد للسعادة على طريقة زينة تعرف عليهم

GMT 01:27 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

باحثون يؤكدون تقلص عيون العناكب الذكور بنسبة 25%

GMT 15:46 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

كارل هاينز رومينيجه يشيد بسياسة هاينكس

GMT 12:17 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

Mikyajy تطلق أحمر شفاه لعاشقات الموضة والتفرد

GMT 16:48 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

المقاصة يسعى لاستعادة الانتصارات أمام الانتاج

GMT 14:39 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

"ثقافة أبوقرقاص" تنظم فعاليات في قرية الكرم وقصر الإبداع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon