بقلم : فهد سليمان الشقيران
في عام 1776 طبع آدم سميث كتابه «ثروة الأمم». تزامن الكتاب مع مرحلة وصدفة. أما المرحلة فهي بدء الثورة الصناعية، و«الصدفة المحكمة» (كما يعبّر بي جي أورورك في ملاحظاته على الكتاب)، فهي استقلال الدولة الرأسمالية الأعظم أميركا، ومبادئ سميث تزحزح بعضها وبقي بعضها الآخر، لكن الوشوم التي تركها في جسد الاقتصاد ونظريته لن تزول.
سميث جعل معيار مقياس الثروة لا ما يكدَّس في الخزائن المقفلة بل بمجمل الإنتاج، وفصل بين الاقتصاد والأخلاق، مع أنه درّس في فلسفة الأخلاق، وألّف قبل «ثروة الأمم» كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» عام 1759، والتقى مواطِنه الفيلسوف الاسكوتلندي ديفيد هيوم وشجّعه على الاستمرار في تأليف هذا الكتاب. يصمه نقاده بأنه خدش معايير أخلاقية حين وضع مبادئه على أسس الحرية الاقتصادية محرراً إياها من تكاليف الرعايات التقليدية، واعترض على القيود الاقتصادية؛ فالتجارة حين تكون حرة فهي تبادلية الفائدة والمنفعة. وجُنّ جنون ماركس من نظريته في «القيمة والعمل».
يشرح بي جي أورورك في ملاحظاته على «ثروة الأمم» كاتباً: «مبادئ آدم سميث البسيطة.. كشف آدم سميث سر الاقتصاد المبهم بجملة خاطفة كلمح البصر: (الاستهلاك هو الغرض الوحيد للإنتاج كله)، لا يوجد سر مكنون. أبعد سميث (الميتا) عن (الفيزيقا) فالاقتصاد هو بالضبط عيشنا ورزقنا وحياتنا ولا شيء سواها... يؤكد (ثروة الأمم) ثلاثة مبادئ رئيسية: السعي وراء المصلحة الشخصية، وتقسيم العمل، وحرية التجارة».
ما منحته نظرية سميث من تحرير الاقتصاد ونظريته مما يمكن أن يعرقل حركته غيّرت مفاهيم التجارة وفتح أسئلة تقسيم العمل، والمبدأ الأقوى فصل الميتا عن الفيزيقا من أجل وضع الدنيا وشؤونها وتعاملاتها مضبوطةً بقيم دنيوية أصلها المنفعة، وهذا أساس التجارة. بل مكّن هذا المبدأ الدول من اكتشاف فرص استثنائية من دون ربطها بالمصلحة الدنيوية لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه. فالنماذج الاقتصادية تُبنى على أسس المنفعة والمصلحة بشكل أساسي.
ما دفعني للتذكير بمبدأ سميث أن أسئلة كثيرة تُطرح اليوم حتى في الإعلام المناوئ لدول الخليج عن سبب التطور المذهل في التنمية والنقلات القوية بالاقتصاد. ليس النفط وحده سبب ذلك، فدول أخرى في العالم لديها نفط ولكنها تعيش في ظروف قاهرة، لدى إيران والعراق وليبيا ونيجيريا وفنزويلا وغيرها ثروات نفطية هائلة، ليست القصة في النفط كما يروّج بعض المثقفين، وإنما السبب الأساسي في مستوى الدنيوة والتحرير للفعل الاقتصادي والخطط المبرمة والمشاريع التي قطعت الدول منها أشواطاً طويلة. لدى إيران نفطها لكنها ترزح تحت نمط اقتصادي يحكمه الموروث المتهالك من جهة وعقول مثقلة بأغلال الثورة. كذلك بقية الدول التي ضربت ثرواتها مشاريع الوحدة والقومية وأوهام البعث وجنون العداوات.
إن الاستغراق في ربط الاقتصاد بالأفكار المعيارية خلق انهيارات دامية في الدول الشيوعية والآيديولوجية رغم توفر بعضها على ما يسميها سميث «القيمة المطلقة»، بل تجاوزت الانهيار وصولاً إلى التفسخ على النحو الذي نشهده اليوم في العالم.
ولما كانت المصلحة الشخصية مركزية في غريزة الإنسان، رأى سميث أن نظريته يجب أن تنطلق من واقع الإنسان؛ من أمراضه وأعطاله، لذلك كتب في «اليد الخفية». المنافع التي تسببها المصالح بين أفراد المجتمع ليست ضرورياً أن ترتبط بالخيرية. فالمنفعة التي يوفّرها البقال إنما توفرت انطلاقاً من نظرته هو المنفعية، فالمنافع التي تتهيأ بسبب العمل من أجل المصالح الشخصية تنعكس على أفراد المجتمع، وهي منافع تأتي كنتائج ثانوية لدوران طموحاتنا ومصالحنا في الواقع.
إذا كان الصيد نواة تشكّل القبيلة، كما يقول براتراند راسل، فإن رسم سياسات المنفعة عبر وظيفة الدولة المحددة متمثلة بـ«التهيئة» أساس النهوض للاقتصاد كما يعبّر آدم سميث، ولا يمكن ربط السياسات بآيديولوجيات، فالمنافع هي ما تضع سياساتها مع التجربة، وكل فضاء ضمن التجربة البشرية يمكنه أن يُنتج قيمه التداولية.
ليس همّنا في الحديث عن «دنيوة» الاقتصاد والسياسة أن توضع مقابل المؤسسات الدينية وأنظمتها، بل إن ميزة تحرير أي عمل دنيوي من أي مؤثر سابق تجعل الحركة نحو الهدف السياسي والاقتصادي أقرب للإنسان منها إلى تاريخه. فأساس مصلحة الإنسان أو منفعته في كون عملياته التي يُجريها واقعية؛ فالتجارة واقعية - كما يقول سميث - ولا يمكنها أن تكون إلا كذلك، فلا معنى لاقتصاد يجعل من نظريةً تاريخية منطلقَه لرسم منافعه في هذا العالم.
المشاريع العملاقة في الخليج تفرض نفسها كنموذج النجاح العربي الوحيد، وعِلّة ذلك أن أهله استثمروا الاحتكاك المبكر مع النماذج الغربية الناجحة مثل بريطانيا والولايات المتحدة، واستلهموا النموذج الغربي الذي كان منبوذاً لدى كل منصات الخطابة والكتابة والتأليف في المنطقة؛ كتابات غزيرة لمثقفين عرب يسخرون من نموذج دول الخليج بوصفها تحذو نمط الغرب.
منح الغربُ العالمَ في العلوم والاقتصاد ذروات ما يقدر عليه البشر، لذلك فإن تعبير فوكوياما عن تسيُّد الليبرالية بوصفها «نهاية التاريخ» يمكن عدّه فاعلاً بمعنى ذروة الذروات، رغم احتجاجه على فهم غير متوقع ومستمر لنظريته، كما في حديثه قبل أيام لمايكل هيرش في «فورين بوليسي».
الآن محّص التاريخ تجاربه في المنطقة، نهضت دول مشاريع الاقتصاد الحر، وانتهت تلك المشاريع الصوتية، إلى أين آلت نظريات الناصرية والجماهيرية الليبية والعبقريات البعثية؟! إلى لا شيء. تجربة دول الخليج باختصار هي خلاصة الواقعية والمنفعة والتعاطي الدنيوي في عدد من المجالات ومنها الاقتصاد.