بقلم : فهد سليمان الشقيران
مستوى الالتباس الذي يشوب فكرة تعليم الفلسفة لدى العموم ليس سهلاً. نزع القناعات المتجذرة على مدى أجيال لا يمكن أن يحدث في ثانية. ومع ذلك فإن الأجواء بمجملها حول تعليمها في الخليج جيدة، استطاعت الحكومات أن تسد النقص الخطير في صفوف التعليم. وتلك التهيئة لا تعني انتهاء الاستفسارات حول الجدوى والطريقة والمخرجات.
لا ينتظر من الفلسفة تحقيق المعجزات، ولا يمكنها حل المعضلات، ولكن ما تنتجه على المدى البعيد مرهون بسياسات تعليمها واستراتيجيات تدريسها. تجربة تونس عميقة التأثير كما يقول التونسيون أنفسهم، وكما وضح بعد التجربة المديدة من التدريس للموضوعات والنصوص الفلسفية التي تختار لها أحياناً مفردات أعم مثل التفكير الناقد وهذا محل نقد، على المتخصصين بالتربية والتعليم الخوض فيه، لكن ما يتصل بتعليم الفلسفة يمكن وضع ملاحظات على أسئلة افتراضية قد تكون مطروحة لدى المناوئين لتعليمها أو المتحفظين عليها.
الفلسفة ليست مهمتها التخريب، مقابل البناء، مهمة التعليم التقليدية. الفلسفة لا تشبه العلوم بدفاعها عن حقائق ثابتة وراسخة، إنها مجموع المحاولات البشرية، وحصيلة المتون النظرية، ومحتوى الاستدلالات والمحاججات الحيوية. وما كانت للفلسفة يوماً مهمة متعلقة بالهدم ولا بالبناء، وإنما تهيئة الأجواء لمنح الإنسان قدرة مضاعفة على مواجهة المستغلق من الأسئلة، ومنازلة الدقيق من الأفكار، وما حملته من نظرياتٍ طوال تاريخها يمكن الاستفادة منه في التعليم لتدريب الطلبة وتمرينهم على النقد والاستدلال والحجاج. كان سقراط يتهم بأنه معلم التخريب، نفى عن ذاته صفة التعليم كلها، وما كان كانط يعتبر تعليم الفلسفة يعني تخريج ملايين الفلاسفة، فهذا ممتنع كلياً، وإنما يهمه تعليم «التفلسف». بهذا استطاعت دول كثيرة بناء الفرد ومنحه قدرات نقدية تفيده في عمله لاحقاً، أياً كان، وملكة النقد لا تعني الاعتراض الأعمى، وإنما النقد الفحص والتأمل والتروي، ومن ثم أخذ الحكم ضمن المعطيات.
يستشهد البعض بوجود أزمات لدى بلدان جربت تعليم الفلسفة، وقد اطّلعت قبل أيام على كتاب لبيار مالك عن «تعليم الفلسفة» استشهد فيه بأزمة تعليمها في لبنان وذلك على مستويين؛ أولهما، شكوى المعلم من المادة بأنها صعبة التعليم ومزعجة، وطريقة التقييم فيها متعبة، والعلامات التي تؤمنها لهم متدنية. وثانيهما، وجود أزمة تتطور بحسب قوله: «في كل البلدان التي خصصت في تعليمها الثانوي فرعاً للفلسفة والمواد الأدبية... حتى في فرنسا، يتراجع فرع الفلسفة بعد أن كان الطريق الأكثر امتيازاً والمسار نحو التميز، وليس الواقع في لبنان أفضل من واقع فرنسا». ويستشهد المؤلف بإحصاءات للمركز التربوي للبحوث والإنماء، إذ تثبت تراجع نسبة تسجيل المتعلمين في فرع الآداب والإنسانيات منذ العام 2003 حتى 2012.
هذا التحدي لتعليم الفلسفة لا يلغي أهمية التمسك به، التعليم بسياساته لا تقوده موضات العصر، والتحدي لا يخص تعليم الفلسفة وحدها، وإنما مجالات التعليم كلها، ولذلك فإن تدريس الفلسفة يجب إنقاذه عبر تطوير سياساته، والتفكير في استراتيجيات لا تحولها إلى نشاط تسلية وإزجاء للوقت وإنما لمعمل تمرين حقيقي على قراءة النصوص ودرسها، ولذلك لم تشكُ التجربة التونسية الرصينة من مثل ذلك الخلل.
سؤال جدوى الفلسفة أكثر من طرحه الفلاسفة أنفسهم، وثمة فلسفات بنيت لمناهضة موضوعات عريقة في تاريخ الفلسفة مثل الوضعية، والتفكيكية، وفلسفات الاختلاف عموماً وغيرها، فالفلسفة يضطرب بعضها بعضاً.
إن قيمة الفلسفة ليست في نتيجتها، وإنما في طريقها. البحث هو الغاية وليست نتيجته. الفلسفة المقبلة لدى هيدغر «لا تعني التي ستظهر في المستقبل، بل الفلسفة المتجهة نحو المستقبل مهما كان الزمن الذي تظهر فيه» بحسب تعليق إسماعيل المصدق وشرحه. أما عن إشارة هيدغر التمهيدية لـ«ماهية الفلسفة» فإنها «لا تتعين إلا من خلال طرح الأسئلة الأساسية»، ويفكر فيها من خلال الرنين الأول للحال الوجداني الأساسي للكائن والكينونة.
يعنون هيدغر فقرة من كتابه «الأسئلة الأساسية للفلسفة»: «الفلسفة بصفتها معرفة بماهية الكائن، غير مفيدة مباشرة، وهي مع ذلك سيادية، على قدر وعمق تاريخ شعبٍ يحضر أو يغيب في بدئه المعين لكل شيء يكون شعر الشاعر، وتفكير المفكر، الفلسفة. إن شعباً تاريخياً بلا فلسفة مثل نسرٍ من غير الامتداد الشامخ للأثير اللامع الذي تبلغ فيه أجنحته الاندفاع الأكثر صفاءً». يضيف: «تختلف الفلسفة كلياً عن (رؤية العالم) وتختلف جذرياً عن كل علم، فلا يمكن أن تعوض الفلسفة انطلاقاً من ذاتها رؤية العالم ولا العلم، كما لا يمكن أيضاً تقديرها انطلاقاً منهما. بل لا يمكن ألبتة مقايستها بشيءٍ آخر خارج ماهيتها الخاصة، اللامعة تارة، والمختفية تارة أخرى، والفلسفة لا تنجز أيضاً أي شيء إذا حملناها على أساس؛ هل تفيدنا مباشرة؟ وبمَ؟ الرأي المعتاد والتفكير العملي ما برحا يستتبعان بالضرورة خطأ في التقدير عند الحكم على الفلسفة، إما بالمبالغة في قيمتها أو بالحط منها».
لذلك، فإن الحديث عن تعليمها يتضمن بالضرورة منح دارسها فرص نقدها. هذه حيوية الفلسفة وخاصيتها، إنها كما يعبر هيدغر تفتح مجالاتٍ ووجهاتٍ جديدة للسؤال عن ماهية الأِشياء التي تختفي دائماً مرة أخرى، والعبرة بتعليم الفلسفة مرهون بسياسات تعليمها.