توقيت القاهرة المحلي 11:11:49 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الفلسفة في استراتيجيات التعليم

  مصر اليوم -

الفلسفة في استراتيجيات التعليم

بقلم : فهد سليمان الشقيران

مستوى الالتباس الذي يشوب فكرة تعليم الفلسفة لدى العموم ليس سهلاً. نزع القناعات المتجذرة على مدى أجيال لا يمكن أن يحدث في ثانية. ومع ذلك فإن الأجواء بمجملها حول تعليمها في الخليج جيدة، استطاعت الحكومات أن تسد النقص الخطير في صفوف التعليم. وتلك التهيئة لا تعني انتهاء الاستفسارات حول الجدوى والطريقة والمخرجات.
لا ينتظر من الفلسفة تحقيق المعجزات، ولا يمكنها حل المعضلات، ولكن ما تنتجه على المدى البعيد مرهون بسياسات تعليمها واستراتيجيات تدريسها. تجربة تونس عميقة التأثير كما يقول التونسيون أنفسهم، وكما وضح بعد التجربة المديدة من التدريس للموضوعات والنصوص الفلسفية التي تختار لها أحياناً مفردات أعم مثل التفكير الناقد وهذا محل نقد، على المتخصصين بالتربية والتعليم الخوض فيه، لكن ما يتصل بتعليم الفلسفة يمكن وضع ملاحظات على أسئلة افتراضية قد تكون مطروحة لدى المناوئين لتعليمها أو المتحفظين عليها.
الفلسفة ليست مهمتها التخريب، مقابل البناء، مهمة التعليم التقليدية. الفلسفة لا تشبه العلوم بدفاعها عن حقائق ثابتة وراسخة، إنها مجموع المحاولات البشرية، وحصيلة المتون النظرية، ومحتوى الاستدلالات والمحاججات الحيوية. وما كانت للفلسفة يوماً مهمة متعلقة بالهدم ولا بالبناء، وإنما تهيئة الأجواء لمنح الإنسان قدرة مضاعفة على مواجهة المستغلق من الأسئلة، ومنازلة الدقيق من الأفكار، وما حملته من نظرياتٍ طوال تاريخها يمكن الاستفادة منه في التعليم لتدريب الطلبة وتمرينهم على النقد والاستدلال والحجاج. كان سقراط يتهم بأنه معلم التخريب، نفى عن ذاته صفة التعليم كلها، وما كان كانط يعتبر تعليم الفلسفة يعني تخريج ملايين الفلاسفة، فهذا ممتنع كلياً، وإنما يهمه تعليم «التفلسف». بهذا استطاعت دول كثيرة بناء الفرد ومنحه قدرات نقدية تفيده في عمله لاحقاً، أياً كان، وملكة النقد لا تعني الاعتراض الأعمى، وإنما النقد الفحص والتأمل والتروي، ومن ثم أخذ الحكم ضمن المعطيات.
يستشهد البعض بوجود أزمات لدى بلدان جربت تعليم الفلسفة، وقد اطّلعت قبل أيام على كتاب لبيار مالك عن «تعليم الفلسفة» استشهد فيه بأزمة تعليمها في لبنان وذلك على مستويين؛ أولهما، شكوى المعلم من المادة بأنها صعبة التعليم ومزعجة، وطريقة التقييم فيها متعبة، والعلامات التي تؤمنها لهم متدنية. وثانيهما، وجود أزمة تتطور بحسب قوله: «في كل البلدان التي خصصت في تعليمها الثانوي فرعاً للفلسفة والمواد الأدبية... حتى في فرنسا، يتراجع فرع الفلسفة بعد أن كان الطريق الأكثر امتيازاً والمسار نحو التميز، وليس الواقع في لبنان أفضل من واقع فرنسا». ويستشهد المؤلف بإحصاءات للمركز التربوي للبحوث والإنماء، إذ تثبت تراجع نسبة تسجيل المتعلمين في فرع الآداب والإنسانيات منذ العام 2003 حتى 2012.
هذا التحدي لتعليم الفلسفة لا يلغي أهمية التمسك به، التعليم بسياساته لا تقوده موضات العصر، والتحدي لا يخص تعليم الفلسفة وحدها، وإنما مجالات التعليم كلها، ولذلك فإن تدريس الفلسفة يجب إنقاذه عبر تطوير سياساته، والتفكير في استراتيجيات لا تحولها إلى نشاط تسلية وإزجاء للوقت وإنما لمعمل تمرين حقيقي على قراءة النصوص ودرسها، ولذلك لم تشكُ التجربة التونسية الرصينة من مثل ذلك الخلل.
سؤال جدوى الفلسفة أكثر من طرحه الفلاسفة أنفسهم، وثمة فلسفات بنيت لمناهضة موضوعات عريقة في تاريخ الفلسفة مثل الوضعية، والتفكيكية، وفلسفات الاختلاف عموماً وغيرها، فالفلسفة يضطرب بعضها بعضاً.
إن قيمة الفلسفة ليست في نتيجتها، وإنما في طريقها. البحث هو الغاية وليست نتيجته. الفلسفة المقبلة لدى هيدغر «لا تعني التي ستظهر في المستقبل، بل الفلسفة المتجهة نحو المستقبل مهما كان الزمن الذي تظهر فيه» بحسب تعليق إسماعيل المصدق وشرحه. أما عن إشارة هيدغر التمهيدية لـ«ماهية الفلسفة» فإنها «لا تتعين إلا من خلال طرح الأسئلة الأساسية»، ويفكر فيها من خلال الرنين الأول للحال الوجداني الأساسي للكائن والكينونة.
يعنون هيدغر فقرة من كتابه «الأسئلة الأساسية للفلسفة»: «الفلسفة بصفتها معرفة بماهية الكائن، غير مفيدة مباشرة، وهي مع ذلك سيادية، على قدر وعمق تاريخ شعبٍ يحضر أو يغيب في بدئه المعين لكل شيء يكون شعر الشاعر، وتفكير المفكر، الفلسفة. إن شعباً تاريخياً بلا فلسفة مثل نسرٍ من غير الامتداد الشامخ للأثير اللامع الذي تبلغ فيه أجنحته الاندفاع الأكثر صفاءً». يضيف: «تختلف الفلسفة كلياً عن (رؤية العالم) وتختلف جذرياً عن كل علم، فلا يمكن أن تعوض الفلسفة انطلاقاً من ذاتها رؤية العالم ولا العلم، كما لا يمكن أيضاً تقديرها انطلاقاً منهما. بل لا يمكن ألبتة مقايستها بشيءٍ آخر خارج ماهيتها الخاصة، اللامعة تارة، والمختفية تارة أخرى، والفلسفة لا تنجز أيضاً أي شيء إذا حملناها على أساس؛ هل تفيدنا مباشرة؟ وبمَ؟ الرأي المعتاد والتفكير العملي ما برحا يستتبعان بالضرورة خطأ في التقدير عند الحكم على الفلسفة، إما بالمبالغة في قيمتها أو بالحط منها».
لذلك، فإن الحديث عن تعليمها يتضمن بالضرورة منح دارسها فرص نقدها. هذه حيوية الفلسفة وخاصيتها، إنها كما يعبر هيدغر تفتح مجالاتٍ ووجهاتٍ جديدة للسؤال عن ماهية الأِشياء التي تختفي دائماً مرة أخرى، والعبرة بتعليم الفلسفة مرهون بسياسات تعليمها.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الفلسفة في استراتيجيات التعليم الفلسفة في استراتيجيات التعليم



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 09:11 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة
  مصر اليوم - إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة

GMT 11:17 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

غضب صلاح من بطء مفاوضات ليفربول واهتمام من باريس سان جيرمان
  مصر اليوم - غضب صلاح من بطء مفاوضات ليفربول واهتمام من باريس سان جيرمان

GMT 11:23 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
  مصر اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 23:04 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

رونالدو يحرز الهدف الأول لليوفي في الدقيقة 13 ضد برشلونة

GMT 06:59 2020 الأربعاء ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

تونس تتأهل إلى نهائيات "أمم أفريقيا" رغم التعادل مع تنزانيا

GMT 05:53 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

موضة ألوان ديكورات المنازل لخريف وشتاء 2021

GMT 09:41 2020 الخميس ,29 تشرين الأول / أكتوبر

حسام حسن يعلن قائمة الاتحاد السكندري لمواجهة أسوان

GMT 03:51 2020 الأحد ,18 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الدفاع يشهد المرحلة الرئيسية للمناورة ”ردع - 2020”

GMT 04:56 2020 السبت ,24 تشرين الأول / أكتوبر

فنادق تعكس جمال سيدني الأسترالية اكتشفها بنفسك

GMT 23:44 2020 الأربعاء ,09 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تغلق التعاملات على تباين

GMT 11:46 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

جوارديولا يهنئ ليفربول بـ كأس الدوري الإنجليزي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon