توقيت القاهرة المحلي 21:08:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عالم يضجّ بالتعبير

  مصر اليوم -

عالم يضجّ بالتعبير

بقلم : فهد سليمان الشقيران

ترتبط النقلات المعرفية التي يكتشفها الإنسان بتغيرات كبيرة تنسحب على مفاهيم أساسية. الثورات الصناعية والعلمية والتقنية والبيولوجية غيرت من مركزيات فكر الإنسان. كل تقدم علمي يزحزح مركزيات ومفاهيم وحقائق؛ وبمستوى مشابه فإن الثورة التقنية غيرت من سبل فهم الإنسان لأحداثه، فالسوشيال ميديا اليوم تقدم طرقها المختلفة لفهم الحدث والتعليق عليه بشكلٍ يختلف عن الذي كان عليه سابقاً.
رولان بارت في مقالة له بعنوان «الكتاب، المثقفون، الأساتذة» يقف ضد إحالة تموقع الكلام إلى «الأصل الخطابي للتعليم» الفكرة القديمة التي ينتقدها ويضع مقابلها قوله: «تبدأ الكتابة حيث يغدو الكلام عنيداً لا إمكان لتحمله، ولا يمكن للكلام أن يتراجع القهقرى. إلا أن بإمكاننا أن نكرر الكلمة ونلوكها. بيد أن كل خدش هنا إضافة وشحن وزيادة. فإن أنا أردت محو ما قلت لا يمكنني أن أقوم بذلك ما لم أظهر أداة المحو ذاتها (كأن أقول: «بالأحرى»، «لقد أسأت التعبير»)، المفارقة إذن أن الكلام، الذي هو عابر سريع الزوال، هو الذي لا يقبل المحو والزوال وليست الكتابة. أمام الكلام ليس بإمكاننا إلا أن نضيف كلاماً آخر».
بارت هنا يتعالى على تفضيل الكتابة على الكلام كما فعل جيل دلوز الذي شن حرباً نظرية على الكلام باعتباره أداة المثقف «القذرة» مقابل «الكتابة النظيفة»، جيل دلوز يبرئ ساحته من جلبة المثقفين، ولا يعتبر نفسه منهم ولا ضمن ادعائهم وزيفهم وفسادهم وضجيجهم إنه لا يدعي فهم كل شيء، ولا يتهافت على المؤتمرات والخطابة والكلمات، ولكنه يصف دوره بأنه ممن يختار موضوعاً فيعكف عليه ثم يختار الذي يليه.
ومشكلة التقنية في قرننا الحالي لا تنفصل عن تحليلات مثيلاتها في القرن العشرين حيث السجال الفلسفي حول وسائل الإعلام التقليدية قد طغت على حديث الجامعات والمكتبات والمؤلفات. لنعد لتحليل جان بودريار حيث يكتب حول الحداثة وتحت عنوانٍ فرعي بعنوان «وسائل الاتصال الجماهيري الموضة والثقافة الجماهيرية» يكتب: «لقد ازدهر هذا الميل الأساسي وتقوى منذ بداية القرن العشرين بواسطة انتشار صناعة الأدوات الثقافية، وانتشار نوع من الثقافة الجماهيرية، والتدخل الهائل لوسائل الاتصال الجماهيري (الصحافة، والسينما، والراديو، والتلفزيون، والإشهار) كما تزايد الطابع العابر والعرضي للمضامين والأشكال. فالثورات في الأسلوب والموضة والكتابة والعادات لا تحصى. وبتجدرها أكثر فأكثر في تغير المنظور، وفي تحول بصري مستمر، تغير الحداثة معناها. فهي تفقد شيئاً فشيئاً كل قيمة جوهرية، وكل آيديولوجيا أخلاقية وفلسفية في التقدم».
بادر عدد من المفكرين العرب المتأثرين بالسجال الفرنسي حول النخبوي والشعبي، المثقف والسلطة، لنقد المثقف والنخبة كما فعل علي حرب وعبد الله الغذامي، وكان لهذا النقد بريقه لتحطيم سلطة المثقف باعتبارها تؤله طرحه وتعطيه مشروعية اعتباطية تجعل منه ديكتاتوراً كما طرح علي حرب، بينما الغذامي أعلن عن سقوط النخبوي وبروز الشعبي، وبرغم حديثه عن نهاية أثر ما بعد الحداثة غير أن نقده للمثقفين وتمجيده للطائر الأزرق «تويتر» وكتاباته عنه لم يتجاوز الأدوات ما بعد الحداثية التي استخدمها في كتابه «القبيلة والقبائلية» الذي تضمن بحسب ناقده نعيمان عثمان مضامين رجعية وذلك في كتابه «القبيلة عجز الأكاديمي ومراوغة المثقف».
لا يمكن إنكار فضيلة حق التعبير التي أتاحتها وسائل السوشيال ميديا ولكن هذا الإنصاف ليس من مهامنا، الأفضل أن نتجه صوب تحليل التطبيقات وما أفرزته من ظواهر.
لقد غيرت الوسائط وأثرت على الأكاديميا في العالم؛ أسس البحث والتوثيق، وأساليب الجمع والتبويب كلها تأثرت بالزحف السوشلي والتقني، والآن ينسحب الأمر على المجال السياسي وأساليب فهم الأحداث الكبرى المستجدة. حتى وقت قريب كان شغف الفهم للحدث يسبق رغبة التعبير عنه وحوله ومعه.
تمنحنا الصور العامة أوهاماً خطيرة عن اكتمال فهمنا للمشهد أياً كان المشهد، بينما تلك جزء من الصورة، والبقية على المشاهد أن يقرأ ويبحث ويتتبع. أتعجب ممن يتحدث في كل ملف من دون أن يكون لديه ما يدل على القراءة بالموضوع أو الاضطلاع به، ولا ما يدل على ذهابه إلى موقع الحدث أو ارتباطه بخباياه ودرس أهله، هنا نكون أمام كتل من «الكلام الفارغ» كما يقول رولان بارت.
ذلك الفضاء السوشلي ليست مشكلته في الفراغ، بل في سياسات الطرح الفارغ. اليوم ثمة جلبة كبرى باسم المواطنة أو الثورة أو الإصلاح، والواقع أن الطرح الفارغ لا بد أن يتشبث بأحد هذه الشعارات من أجل إكساب طرحه مشروعية، لذلك من فقد الأدوات العلمية تزيّا بلبوس الوطنية فأخذ القدسية.. هذه طروحات شعبوية ديكتاتورية لم يصل إليها حتى «المثقف الديكتاتور» على علّاته.
ربما أكبر جريمة اقترفتها السوشيال ميديا أن ما تطرحه في «تويتر» وغيره يتم عن طريق «الكتابة». القول الفارغ يطرح عبر أداة الكتابة وهنا فرق كبير بين الثرثرة المغضوب عليها من قبل حيث «التلفاز» العدو كما يشرح بودريار، أو «الكلام القذر» كما يقول جيل دلوز. الكتابة التي اعتبرها جاك دريدا ليست فقط مضارعة للغة ولا ناقلةً لها وإنما سابقة لها ومتجاوزة امتهنت لتكون أداة تصويت. ثمة مقالات في الصحف لا يمكن وصفها بالكتابة بقدر ما ينطبق عليها وصف «التصويت»؛ إنها تعابير صوتية مدونة لأن المسافة بين الخطابة والكتابة لا يمكن ردمها بالورقة والحبر، فالكتابة «مفهوم» وليس «خطّاً» إنها أدق من ذلك بكثير. لكنها اليوم تستخدم «ثقافياً وصحافياً» للارتزاق والتزيّد والتناهب، وهذا داء أخلاقي وليس موضع نقاشنا هنا.
بآخر المطاف؛ فإن ما تطرحه السوشيال ميديا يرسل للجميع نتيجة صادمة مفادها أن بإمكانك حين تكون جريئاً ابتذال كل المجالات، لنسأل أنفسنا كم عدد من يريد الدرس والفهم مقابل من يتهافت على التصدّر والتعبير؟!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عالم يضجّ بالتعبير عالم يضجّ بالتعبير



GMT 06:02 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 05:58 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 05:54 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 05:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 05:47 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 05:43 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 05:39 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 05:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon