توقيت القاهرة المحلي 19:17:07 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حول الجمال وحيويته وسياساته

  مصر اليوم -

حول الجمال وحيويته وسياساته

بقلم : فهد سليمان الشقيران

في ذروة تجلي الجميل، مع مواسم الفرح والترفيه؛ تنبجس علامات الغموض ليجعل من لحظة الجمال محرجة تتجاوز حروف اللغة وتستعصي تلك اللحظة على التشريح أو الاختزال أو التعبير. من هنا تم الربط بين الصوفية والفنون، إذ تبدّت اللحظة الفنية بكثافتها لتنافس اللحظة الصوفية بعمقها وتكثفها وغموضها، هذا التشارك بين اللحظتين خدم الرؤية الفنية العميقة وأحيا الذوق الجمالي وأنماط التفكير والرسم والتحليل، حتى في السينما أو الموسيقى تبدو لحظة تجلي الجميل صوفية في معانيها ورموزها وعلاماتها.
الجمال يخاطب العمق والسطح معاً، يخاطب النزعات والحوافز الذاتية. الجمال يختبئ بالنفس أكثر مما ينسدل باللسان، فهو عصيّ على التعبير، ومن جميل قول هيراغليطس: «لن تجد تخوم النفس إن كنت تبحث عنها حتى لو طرقت كل طريق، ذلك أن لوغوسها بالغ العمق».
إذا كان هيغل يعتبر الجمال أنه «تجلي الفكرة بطريقة حسية» فإن هذا لا يشرح غموض الجمال أو انبجاسه أو علاماته ورمزيته، ذلك أن التعريف بهذا الاختزال إنما يجعل الجمال مدركاً ومفهوماً ومشروحاً. الجمال بطبيعته يخاتل ويراوغ، ليس جرماً يمكن جسّه ولا مثالاً يمكن بروزته، بل يتحوّل ويتجدد ويتغير، وإذا كان الجمال يتحول تبعاً للذوق فإنه لا يمكن أن يكون نظرية، بل هو فضاء وضوء ووميض أكثر منه رؤية أو فكرة أو مثالاً يحتذى.
في مايو (أيار) عام 1980 ألقى بيير بورديو محاضرة بعنوان: «تحوّل الأذواق» ونشرها ضمن كتابه «مسائل في علم الاجتماع». وبورديو من المتأملين في علاقة التصوف بالجماليات والفنون.
في ديسمبر (كانون الأول) عام 1978 أجرى سيريل هوفي حواراً مع بيير بورديو حول الموسيقى والعالم قال فيه: «إن أكثر الفنون صوفية وأكثرها روحانية هي لربما ببساطة أكثرها جسدية، وهو ما يجعل الحديث عن الموسيقى صعباً جداً من دون استخدام نعوت أو علامات تعجب، فقد كان كاسيرير يقول إن العبارات الرئيسية للتجربة الدينية كالمانا والواكندا والأوريندا هي كلمات تعجب أي تعابير نشوة». كما أن التجربة الصوفية حرقة خاصة، فإن التجربة الجمالية بصمة خاصة لا تتكرر لدى الآخرين. الوميض الذي زلزل ابن الفارض غير الذي زلزل ابن عربي. النشوات الوجودية تشبه كثيراً النشوات الجمالية. يغدو الجمال فضاءً تتداخل ألوانه وتنفجر عيون مياهه على بعضها فيتغذى كل نهر على الآخر. الجمال أكبر من أي مثال، من هنا يكون التحديد الصارم معادياً للجمال، لأن ما يحدد يأسن كما يأسن الماء.
في مجال التحديد هذا يكتب سارتر عن مفارقة الجميل للعالم، إذ رأى أن «الجميل ليس كائناً قابلاً لأن يكون موضوعاً للإدراك... إنه في صميم مفارقته للعالم، والواقع أن الفنان لا يحقق صورة نعقلها وإنما يقدم مماثلاً مادياً، يمكن لكل من أراد أن يدركه بمجرد أن ينظر إليه ويلتفت له». التجارب لا تتطابق كذلك ومضات الجمال وحدوس التصوف ونشوات الذوق، كلها ضمن سياق خاص لا يمكن أن تخضع للنمذجة أو التطقيم أو التأبيد.
في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2012 أقام الفنان يوسن رحمون معرضاً في رواق إيمان فارس الباريسي. المعرض جاء ضمن رؤية «الفن كممارسة صوفية». المعرض عنوانه «ذرّة»، وبه يسلط الفنان الضوء على الأبعاد الرمزية والدلالات الروحية لتلك الوحدة التي يتعذر تجزئتها وتتكوّن منها مادة عالمنا. يقول هذا الفنان: «كنتُ أبتكر تشييدات مجردة من دون أن أعلم ماذا تعني. كان الأشخاص المحيطون بي يقولون عني إنني مجنون، لكن والديّ أبديا احتراماً ثابتاً لابتكاراتي ونظرا إليها كأشياء جميلة وغامضة».
الفنون بما تنتجه من باهر وجميل إنما تضعنا أمام استثناءات وجودية، فلا شيء يشعرك بأن في الوجود ما يبهج ويستحق العناء مثل تجلي الجميل. إنه «تجل» كما هو عنوان كتاب هانز جورج غادامير «تجلي الجميل».
ما من شيء يمكنه أن يشعرك بالطمأنينة بجلال مشهدية الحياة مثل الجمال. للجمال لحظاته المباغتة، معه يتغيّر مستوى سير الزمن، لم تستغن عنه حتى أصلب العلوم. استعارت الفيزياء من الموسيقى مفاهيم علمية كما في اسم «نظرية الأوتار الفائقة» كما استعارت الفلسفة من الشعر كما في مفهوم «شعرنة الفلسفة» لدى جيل دلوز. إنه يتدخل بسحره بغية تشكيل مفاهيم كبيرة أو تحسين صورتها وإذابة بعض جمودها. والتجربة الجمالية تجربة شعرية بالضرورة، على اعتبار الشعر أكبر من الكلمات، من خلال الشعر يمكن أن تتشكل الحياة، لكنه ليس الشعر بالمعنى المدرسي البسيط وإنما الشعر بمعنى التجربة الذاتية في قراءة الجمال.
والجمال يعاش أكثر مما يُعرّف. التجارب الجمالية هي التي تحدد مفهومنا عنه، فهو خبرة ذاتية تأتي من خلال التمرّن على إدراك تجلي الجميل. كثير من التعريفات تجرّنا إلى القرب من المعنى العام فحسب، أما الغوص في جوهر المجال الفني أو الجمالي أو الشعري فإنه يصاغ من خلال التجربة الذاتية. والجمال حين نعرّفه يفقد صيغته العظيمة التي تتمثل بالتشكل الدائم على صيغٍ مختلفة ومتنوعة. يكتب بورخيس: «لا نستطيع تعريف شيء إلا عندما لا نعرف أي شيءٍ عنه، مثلما نحن عاجزون عن تعريف مذاق القهوة، واللون الأحمر، أو الأصفر، أو معنى الغضب، الحب، الكراهية، الفجر، الغروب، أو حب بلادنا، هذه الأشياء متجذرة فينا، بحيث لا يمكن التعبير عنها إلا بهذه الرموز المشتركة، التي نتداولها وما حاجتنا إلى مزيدٍ من الكلمات». بالجمال يمكننا أن نعرّف ذواتنا، لكن ذواتنا لا يمكنها سكّ تعريف حادّ لمعنى الجمال، إنه أكبر منا.
للحياة مسارها اليومي العادي، الذي يشترك فيه الناس جميعاً، بحوائجهم وأغراضهم، غير أن نزع الذات عن الغرق بـ«الهُم» أو «الذوق الجمعي» يمكن أن يتمّ عبر آليتين؛ آلية فلسفية، وآلية فنية. بالآلية الفلسفية يتحرر الإنسان من «الهُم» بمعنى إدراك الإنسان لوجوده ومعناه والتساؤل المستمر في الألغاز وعدم الركون إلى دربٍ واحد بل عليه أن يعبر «الدروب المتعددة» كما يقول الفيلسوف الألماني هيدغر. أما الآلية الفنية فهي التي تنقذ الإنسان من الذوق المتشابه، وإذا كان هيراقليطس كتب عن استحالة مرور النهر علينا في مرتين، فإن كل تجربةٍ جماليةٍ تحمل بصمة الإنسان نفسه ولا يمكن لتجربةٍ جماليةٍ أن تتكرر بالصيغةِ ذاتها لدى فردين. السيمفونية التي نسمعها نصحبها بخيالنا الشخصي، ومن بجوارنا لديه تأمله عنها وصورته فيها، كذلك الشريط السينمائي، أو قراءة الجسد واللوحة والصورة والنص.
التجربة الجمالية هي اكتشاف لأسرار الذات والعالم، بها ندرك حميميتنا مع الأشياء. بالجمال ملاذ الإنسان من معترك الحياة اليومية بصخبها وسفالتها، لهذا كان الحب والفن والوجد ورقص القلب من بين المفاهيم الحاضرة لدى الفلسفات الحيوية سواء كانت مسيحية كما في بدايات القرن الثامن عشر في أوروبا أو لدى المسلمين كما لدى ابن عربي في القرن الثاني عشر الذي عاش تجربته العلمية البحثية كتجربة جمالية ذوقية. بمثل هذه التجارب نظهر حيوية الحياة ومركزية الجمال في حياة الإنسان، والذين يعيشون من دون أي إدراك للجميل، أناس انقرضوا وجودياً.
التجارب الجمالية بالنسبة للمفكر مثل الأثاث، ذلك أن الفكر من دون جمال يصبح فكراً مدرسياً يتداول في المقررات والمناهج، من أجلّ ما ارتبطت به النصوص الكبرى في الفلسفة، البعد الشعري والجمالي فيها، حيث زيّن الفلاسفة نظرياتهم بألوانٍ فنية وجمالية، فأثمرت نصوصاً آسرة يتلقفها القراء حباً وجمالاً، فالكلمة لها وقع «النوتة» الموسيقية أحياناً، وإذا كان دلوز يقول: «الفيلسوف عاشق المفاهيم» فإن عشق الجمال أحد العلاجات الوجودية من شتى الأمراض الضارة بالبشرية.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حول الجمال وحيويته وسياساته حول الجمال وحيويته وسياساته



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 18:52 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا
  مصر اليوم - روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا

GMT 17:00 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

الإجازات الرسمية في مصر لعام 2025 جدول شامل للطلاب والموظفين
  مصر اليوم - الإجازات الرسمية في مصر لعام 2025 جدول شامل للطلاب والموظفين

GMT 09:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 10:55 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

رأس شيطان ضمن أفضل 10 مناطق للغطس في العالم

GMT 21:33 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

يسرا تشارك في حفل توقيع كتاب «فن الخيال» لميرفت أبو عوف

GMT 15:36 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : ناجي العلي

GMT 09:48 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

منى عبد الغني توجّه رسالة إلى محمد صلاح

GMT 17:26 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 20 نوفمبر /تشرين الثاني 2024

GMT 15:47 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 11:09 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الملكة رانيا ترد على رسالة طالب جامعي بطريقة طريفة

GMT 11:06 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

وكالة فيتش ترفع التصنيف الائتماني للبنوك المصرية

GMT 19:10 2020 الجمعة ,25 أيلول / سبتمبر

أسعار الكتاكيت في مصر اليوم الجمعة 25 سبتمبر 2020

GMT 15:28 2017 الأربعاء ,20 كانون الأول / ديسمبر

تعيين تركي آل الشيخ رئيسًا للاتحاد العربي لكرة القدم

GMT 16:33 2016 الخميس ,14 إبريل / نيسان

جلوس صيف 2016 تتألق باللون الرمادي

GMT 17:06 2021 الثلاثاء ,07 أيلول / سبتمبر

لطيفة تطرح كليبها "الأستاذ" برفقة شقيق أمير كرارة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon