بقلم : فهد سليمان الشقيران
تبدو المظاهرات اللبنانية بمثابة زلزال اجتماعي ضد الدوران على الذات الذي عاشتْه أجيال ما بعد الحرب الأهلية، شعارات غير تقليدية، وانبعاث شديد الوضوح لفكرة الدولة مقابل الطائفة، للفضاء السياسي الديمقراطي المعلمن مقابل الزعامات الإقطاعية. ما كانت لهذه الهبّة في الساحات أن تتم لولا المخاضات الصعبة، والكوارث الحامية الاقتصادي منها والبيئي وأضيف إليها الاستبداد الديني، وديكتاتورية المد الأصولي. بقي رموز الطوائف وأمراء الحرب على سدة الحكم ولم يكن التوريث سياسياً فحسب وإنما بتطعيم الأجيال الناشئة بذكريات الحرب مع كل حدثٍ انتخابي، أو انفراطٍ أمني، أو خصومةٍ سياسية، ولكن لبنان اليوم أمام مشهدٍ شديد الاختلاف، وأياً كانت مآلات هذا الغضب غير أنه حدث تاريخي، بوصفه الطريق نحو رسم أسس أخرى للدولة تجعل من العلمانية الشاملة الهدف الممكن في هذه المرحلة بعد طول تأجيلٍ باسم عدم جاهزية المجتمع، والعجيب أن نبيه بري علّق على الحدث قائلاً: «بات لبنان جاهزاً للعلمانية».
والحدث يفكك فكرة «الديمقراطية التوافقية» لأنها فكرة تعطيل، وما من حكومة وحدة وطنية يمكنها العمل نحو الإصلاح والتنمية. العمل الآن الجدي ينبغي أن يصب في الخروج من أفكار ما بعد الحرب الأهلية، وضخ تشريعات وأسس جديدة تجعل العلمنة أساس كل تغيير منشود، من دون علمانية شاملة لا يضيء مفهوم الديمقراطية. ولبنان الدولة الأكثر حاجة للعلمنة باعتبار تعدديتها الطائفية، ولتبديد المخاوف والوساوس المجتمعية، وترسيخ فكرة الفرد.
وأهمية العلمنة في الوقت الحاضر أنها تحاصر المد الأصولي الذي يرعاه «حزب الله»، إذ لا يتمدد سياسياً في المناطق والأقاليم وإنما يغرس معه آيديولوجيا معادية للحياة، ومناوئة للمفهوم الحديث للدولة، مما يجعل هوية لبنان تحت تهديد الإسلام السياسي، وأي قارئ لأي وريقات عن مانفيستو «حزب الله» يعلم أن من أهدافه تحويله إلى «نسخة من الجمهورية الإسلامية في إيران، وعليه فإن نزع التأثير الديني عن الجسم السياسي للدولة اللبنانية أولوية ليست لأمن لبنان فقط وإنما لكل دول الاعتدال في المنطقة، بل ويعادي معنى الدولة وقيمتها بمعناها الفلسفي».
لقد أثر الحدث السوري على لبنان ليس على المستوى الديموغرافي، وإنما في جانبه الآيديولوجي، وأحسب أن دخول «حزب الله» طرفاً في الحرب السورية سيجعل من رحلته السياسية والميدانية المستقبلية مثقلة بالصعاب. إن التمرد الذي يواجهه الحزب في معاقل نفوذه يعبر عن فشله في الدخل والخارج، ويتساءل أنصاره منذ اللحظة الأولى لدخوله سوريا عن سبب هذا التدخل وجدواه، ما قيمة حرب الحزب في سوريا والعراق واليمن والبحرين؟! ما الذي يفيد الناخب اللبناني من هذه الحماقات؟! والأصوات المرفوعة على الشاشات من مناصرين لـ«حزب الله» باتت أفصح من ذي قبل، والتنديد بممارسات الحزب الإرهابية خرجت من أفواه أنصاره قبل مناوئيه.
ثم إن الغرور والبطر والتباهي بالفساد الذي أصيب به جل رموز الحكم في لبنان من أبرز أسباب اشتعال نيران الغضب هذه، البعض يتحدث عن صراعات داخل المجالس على حصصٍ وأموال مهولة، ثروة الساسة في لبنان ناهزت الـ800 مليار دولار، وهل هناك أكثر تباهياً من ذهاب أولئك الساسة لمؤتمرات المانحين على طائراتٍ خاصة! بينما المانحون قادمون على رحلاتٍ سياحية عادية، والأدهى من ذلك التباهي بخسارة العلاقات مع الدول الصديقة تاريخياً للبنان، بسبب فشل وزير الخارجية جبران باسيل، الذي يعتبره المتظاهرون «لب المشكلة، وأساس الكارثة، ورأس الفتنة».
لبنان الذي اعتدنا عليه بأسماء مثل فؤاد بطرس الوزير العريق والمحنك، وشارل مالك العربي الوحيد المشارك في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ديسمبر (كانون الأول) عام 1948 حين كان رئيساً للمجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة، وهو مفكر مرموق وعالم جليل ومن ينسى كتابه «المقدمة - سيرة ذاتية فلسفية»، ونتذكر غسان تويني، ثم يحلّ مكانهم من لا يعرف قيمة لبنان عربياً وعالمياً؟! هنا سؤال يطرحه أهل لبنان غيرةً على واقعهم ومستقبلهم ومصيرهم؟! هل يوضع الأمر بيد هؤلاء الرموز؟!
أهل لبنان أعلم بشؤونهم، ولكن لا بد من التعليق دفاعاً عن لبنان الذي نحب، والمقدّر من المثقفين والصحافيين والساسة العرب، لئلا يتحول لبنان إلى ذاكرة وتاريخ. فرص التغيير موجودة نحو العلمنة، ومحاربة أحزب الدم، وحراسة المؤسسة الدبلوماسية من المتمرنين بالسياسة، هنا ينهض لبنان ويحافظ على واقعه.