بقلم : فهد سليمان الشقيران
يبدو أن العيش في مواقع التواصل وبحر التطبيقات بات أكثر منه في الواقع وبين الناس ومع الآخرين، وهذه المقولة ليست للإدانة والتحريض، وإنما للوصف والتدقيق، فالحياة في الواقع الافتراضي تستحوذ على جُل وقت البشر. يُفترض أن التحوّل أكبر منّا، وأكبر من الكتابات والثقافات، والفلسفات، فهي موجة كاملة ستجرف البشرية كلها معها؛ زمن الذكاء الصناعي، والروبوت، واكتشاف الحيوات بالكواكب، وربما يجيء اليوم الذي يطير فيه الإنسان بمفرده. ثمة نذرٌ بتطورات تقنية مذهلة وهائلة ستغيّر كل شيء اعتاد عليه الإنسان، لكن ليسأل الإنسان نفسه لوهلة: بماذا يمكنني أن أتسلح حين أتأقلم مع كل تلك الموجات الآتية؟ قد تكون أسئلة الأخلاق من أبرز ما يواجه الإنسان في مثل تلك القفزات النوعية.
ضمن ترجماتها لموسوعة «ستانفورد» ترجمت رنا الحميدان لموقع «حكمة» تعريف شانون فالور لـ«التواصل الاجتماعي والأخلاق»، فيه رأي شانون أنه: «في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، جعلتْ تقنياتُ الوسائط الجديدة للشبكات الاجتماعية مثل: فيسبوك، وماي سبيس، وتويتر، ويوتيوب، تُغيِّر الممارسات الاجتماعية والسياسية والمعلوماتية للأفراد والمؤسسات في جميع أصقاع العالم، مما أوجد استجابة فلسفية من الجماعة العلمية للأخلاق التطبيقية وفلاسفة التقنية. وفي حين لا تزال هذه الاستجابة العلمية تواجه تحديات بسبب الطبيعة السريعة التطور لتقنيات الشبكات الاجتماعية، تتأكد الحاجة الملحة للاهتمام بهذه الظاهرة كونها تعيد تشكيل عدد الأشخاص الذين يبدأون و/ أو يحتفظون فعلياً بكل نوع من الروابط الاجتماعية أو الأدوار المهمة أخلاقياً: من صديق إلى صديق، ومن الوالدين إلى الطفل، ومن زميل إلى زميل آخر في العمل»... إلخ.
تاريخياً: «كان الفلاسفة الفينومينولوجيون للتقنية، مثل ألبرت بورغمان وهوبير دريفوس، من بين الفلاسفة الأوائل الذين اهتموا بالأهمية الأخلاقية للاستخدامات الاجتماعية للإنترنت. وتأثر هؤلاء المفكرون بنظرة هيدغر للتقنية، التي تعدها قوة متجانسة ذات تأثير مميز وقوة تميل إلى تقييد أو إفقار التجربة الإنسانية للواقع بطرق معينة، بينما اهتمامات بورغمان ودريفوس تميل إلى الاستجابة المباشرة لشبكات (Web 2.0) الاجتماعية (على سبيل المثال، غرف الدردشة ومجموعات الأخبار والألعاب عبر الإنترنت والبريد الإلكتروني)، ولذا فإن استنتاجاتهما المتعلقة بتفسير وفهم التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت ذات صلة مباشرة بخدمات الشبكات الاجتماعية SNS».
بل يذهب شانون إلى أن: «تقنيات الشبكات الاجتماعية تفتح نوعاً جديداً من الفضاء الأخلاقي، حيث تُنشأ الهويات الشخصية والمجتمعات، «الحقيقية» والافتراضية، وتقديمها والتفاوض بشأنها وإدارتها وتنفيذها. وفقاً لذلك، قام الفلاسفة بتحليل وسائل التواصل الاجتماعي من حيث استخداماتها كـ(تقنيات الذات) الفوكوية التي تُسهّل بناء الهوية الشخصية وأداءها، وذلك من حيث الأنواع المميزة للمعايير المجتمعية والممارسات الأخلاقية التي تولدها خدمات الشبكات الاجتماعية... هناك ظاهرة أخرى وذات صلة على مواقع التواصل الاجتماعي وهي استمرار إحياء ذكرى جماعية لملفات تعريف (فيسبوك) بعد وفاة المستخدم؛ حيث لا يؤدي هذا إلى تنشيط عدد من الأسئلة الأخلاقية الكلاسيكية حول واجباتنا الأخلاقية لتكريم وتذكر الموتى فحسب، بل إنه يجدد أيضاً أسئلة حول ما إذا كانت هوياتنا الأخلاقية يمكن أن تستمر بعد انتهاء هوياتنا المتجسدة، وما إذا كان للموتى اهتمامات مستمرة في المثول الاجتماعي أو الشهرة».
أما عن حرية التعبير، وفضاء الديمقراطية في مواقع التواصل الاجتماعي، فيضيف شانون: «عندما يُنظر في خدمات الشبكات الاجتماعية على وجه الخصوص في ضوء هذه الأسئلة، تظهر بعض الاعتبارات المميزة. أولاً: أن المواقع مثل (فيسبوك) و(تويتر) تسهّل المشاركة والتعرض لمجموعة متنوعة للغاية من أنواع الخطاب (على عكس أدوات خدمات الشبكات الاجتماعية الضيقة مثل LinkedIn). قد يواجه مستخدم (فيسبوك) في أي يوم تغذية إخبارية متضمنة رابطاً لمقال في مجلة سياسية محترمة متبوعاً بفيديو لُقط في زيٍّ سخيف، متبوعاً برابط لدراسة علمية جديدة، مصحوباً بعرض مطول لحالة حديثة نشرها أحدهم بشأن غدائه، إلى جانب صورة لشخصية سياسية مشهورة، مضافاً إليها تعليق ذكي وهدام. كما تمتزج صور الإجازات بالصخب السياسي والدعوات إلى الأحداث الثقافية والرسائل التذكيرية بأعياد الميلاد والرسوم البيانية القائمة على البيانات التي تم إنشاؤها لتقويض السياسة العامة، أو الأخلاقية، أو الاقتصادية المشتركة. وهكذا في حين أن المستخدم يتمتع بقدر كبير من الحرية في اختيار أشكال الخطاب التي يجب أن يوليها اهتماماً أكبر، والأدوات التي يمكن من خلالها إخفاء أو إعطاء الأولوية لمنشورات أعضاء معينين في شبكته، حيث لا يمكنه بسهولة أن يحمي نفسه على الأقل من المعرفة السطحية لمجموعة متنوعة من الاهتمامات الخاصة والعامة لزملائه. وهذا من شأنه أن يوفر على الأقل قدراً من الحماية ضد الانعزالية الشديدة، والتجزئة الشديدة للخطاب الذي لا يتوافق مع المجال العام».
لكن السؤال: هل يمكن إحالة أخلاقيات التواصل الاجتماعي، أو ما بعد الأخلاقيات إلى المعيارية الاعتيادية للفلسفة الأخلاقية؟! يجيبنا شانون: «ما وراء الأخلاق تطرح عدداً كبيراً من التساؤلات إزاء الظهور السريع لـخدمات الشبكات الاجتماعية كوسيط مهيمن للتواصل بين الأشخاص. على سبيل المثال، تقدم خدمات الشبكات الاجتماعية بيانات جديدة للنقاش الفلسفي حول ما إذا كانت التقاليد الأخلاقية الكلاسيكية مثل النفعية أو الأخلاق الكانطية أو أخلاق الفضيلة تمتلك مصادر كافية لإلقاء الضوء على الآثار الأخلاقية لتقنيات المعلومات الناشئة، أو ما إذا كنا بحاجة إلى إطار أخلاقي جديد للتعامل مع مثل هذه الظواهر».
السؤال الأهم في معرض الحديث عن «مخاوف أخلاقية» من تطبيقات التواصل: إلى من تُطرح تلك المخاوف؟!
يسأل شانون: «ثمة مخاوف عملية مُلحة حول ما إذا كان يمكن للفلاسفة أن يكون لهم تأثير فعلي في الملامح الأخلاقية للتقنيات الناشئة مثل (SNS)، حيث إذا كان الفلاسفة يعملون على توجيه تحليلاتهم الأخلاقية إلى فلاسفة آخرين فقط، فإن مثل هذه التحليلات قد تعمل ببساطة كالتشريح الأخلاقي للعلاقات بين الإنسان والتقنية، حيث لا تكون هناك فرصة للاستباق أو للإصلاح أو لإعادة توجيه الممارسات التقنية غير الأخلاقية. ولكن إلى من ينبغي توجيه هذه المخاوف الأخلاقية: هل إلى مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي؟ أم إلى الهيئات التنظيمية والمؤسسات السياسية؟ أم إلى مطوري برامج «SNS»؟ وكيف يمكن جعل المحتوى النظري والاستيراد العملي لهذه التحليلات في متناول هذه الجماهير المتنوعة؟ ما القوة المحفزة التي يُتوقع أن تكون لديهم؟ ويصبح الإلحاح العميق لمثل هذه الأسئلة واضحاً بمجرد إدراكنا أنه على عكس المعضلات الأخلاقية الخاصة بـ«الحياة أو الموت» والتي ينشغل بها علماء الأخلاق التطبيقيون (على سبيل المثال، الإجهاض والقتل الرحيم وعقوبة الإعدام)، فإن تقنيات المعلومات الناشئة مثل (SNS) تعاملت في وقت قصير مع النسيج الأخلاقي اليومي لكل حياتنا تقريباً، مما أدى إلى تغيير المشهد الاجتماعي، والعادات والممارسات الأخلاقية التي نتعامل معها. والاهتمامات الأخلاقية التي سُلط الضوء عليها هنا هي في حقيقة الأمر أي شيء عدا (الأكاديمية)، والتي لا يطيق الفلاسفة ولا المجتمع البشري الأوسع تحمل ترف معاملتها على هذا النحو».
بنهاية العرض لبحث شانون، يمكن القول إن ما تطرحه وسائل التواصل من مخاوف أخلاقية، لا يقتصر عليها فقط، وإنما على مستقبل أخلاقيات الإنسان في ظل طوفان التقنية الجارف. في القرن العشرين ظهرت أسئلة أخلاقية بعد القنبلة الذرية والتفوّق التقني المحدود، كان هيدغر سباقاً لذلك. لكن ما تفرضه التقنية اليوم ووسائل التواصل من أسئلة يتجاوز كل الذي طُرح من قبل، لذلك رأينا كثافة أسئلة شانون مقابل مغامراته المحدودة في الإجابات، وهذا هو الدور الذي تضطلع به الفلسفة اليوم؛ أن تناقش العلاقة بين الإنسان وواقعه الافتراضي، بعد أن انشغل الفلاسفة طويلاً بعلاقة الإنسان بواقعه الحقيقي.