بقلم : فهد سليمان الشقيران
حين أعلن التحالف الدولي لمحاربة تنظيم «داعش» عن إلحاقه الهزيمة به في العام الماضي كنت مذهولاً كغيري من الملاحظين؛ إذ في ذلك الإعلان تحدٍ للواقع ولطبيعة حركة الظواهر.
إن أي تنظيمٍ لا ينشأ في الميدان والمساحة الجغرافية، وإنما له طرقه في التغوّل والتمدد والانتشار، وتوفير عناصر البقاء، وإيجاد بدائل لإعادة النهوض بعد حدوث الانكسارات. ولم يكن «داعش» وحده، بل قرأتُ عدداً من التحليلات التي تتحدث عن قرب نهاية تنظيم «القاعدة» انطلاقاً من مقتل حمزة بن أسامة بن لادن، المعوّل عليه في انبعاث التنظيم مجدداً، وبخاصة في قلب «جزيرة العرب» الموقع الاستراتيجي الذي يحثّ «القاعدة» كل جحافله من أجل إعادة الصولات التي تحققت لهم بين عامي 2003 و2006، إذ كانت سنوات ذروة الحركة التي حدثت فيها العمليات الإرهابية الصادمة في عددٍ من مناطق السعودية.
كنتُ كتبت عن «خرافة نهاية تنظيم (داعش)» في 21 فبراير (شباط) من هذا العام، وأذكّر بما أوردته: «من الطبيعي أن تخسر التنظيمات الإرهابية أراضي سيطرت عليها، وذلك من خلال القصف الجوي أو المدد الميداني، لكن التنظيمات ليست دولاً ولا حكومات، وبالتالي حين تُطرد من العراق، ومناطق شاسعة في الشام فإنها تفرّ إلى مناطق أخرى تستطيع أن تتمركز فيها، وبخاصة المناطق الهشة في الساحل الأفريقي أو أجزاء من شمال أفريقيا، أو التغلغل في دول أوروبية تمتلك فيها حاضنة ومأوى مثل بلجيكا التي ضرب بها (داعش) بكل قسوة، ولا تزال الإشارات على وجود خلايا نائمة في أوروبا قائمة، والأحداث الأخيرة وإن كانت محدودة غير أنها تعلن عن قوة التنظيم وقدرته على الاستهداف.. هذا من الناحية الميدانية البحتة».
وفي 20 أغسطس (آب) الحالي صرّح وزير الخارجية الأميركي بومبيو قائلاً: «إن تنظيم (داعش) لا يزال يمثّل تهديداً، إنه أقوى اليوم مما كان عليه قبل ثلاث أو أربع سنوات في (بعض المناطق) بالعراق وسوريا». وعن هيئة التفتيش التابعة لوزارة الدفاع الأميركية، فقد أشارت إلى احتمال «عودة ظهور» التنظيم حين «انسحبت أميركا جزئياً من سوريا حتى إذا خسرت الخلافة وأرضها، فإن تنظيم (داعش) في العراق وسوريا عزز قدراته في العراق واستعاد نشاطه في سوريا خلال الفصل الحالي».
كان التبرير لإعلان الهزيمة ضد «داعش» أنه لم يعد قادراً على التباهي بأمرين؛ أولهما: خسارة مساحة واسعة من الأرض التي يعتبرها موقع خلافته الإسلامية، وبالتالي يناشد أتباعه، وعلى أساسها يجند أنصاره الجدد. والأمر الثاني: ضعف القدرة على تنفيذ الهجمات ضد مناطق حيوية تابعة للولايات المتحدة، أو لدول المنطقة الأخرى، من هنا جاء الرهان الأميركي على قرب هزيمة «داعش»، أو تحقق جزء كبير من النصر المنشود ضده.
لا يمكن التعامل مع التنظيمات الأصولية بطريقة هزيمة العصابات الإجرامية. الحضور العقائدي والاستخدام الديني في آيديولوجيا الانتشار إنما يجعل الفكرة أقدر على التمدد والتجدد، وهذا نقص يشوب أحياناً الرؤى الأمنية تجاه الظواهر الراديكالية، وآية ذلك أن الحالة الإخوانية الدموية لم تنتهِ منذ قرنٍ من الزمان، وذلك بالطبع لأسباب منها تبني دول وحكومات لمنهج الجماعة كما يحدث في إيران أو غزة أو السودان الذي يعوم نحو شاطئ النجاة الآن، لكن بالتأكيد كان للبناء النظري الإخواني أبرز أسباب بقائها، والقوة التي مكّنتهم من ذلك استفادتهم من الصراعات الإقليمية بين الدول؛ إذ ينفذون من خلالها على مآربهم السياسية، وربما حققوا نفوذاً باهراً لخنق مجالات «دنيوية التعليم» كما حدث في عموم دول الخليج التي لوّث «الإخوان» جزءاً من تاريخها، ودمّر رؤية الإنسان للدنيا والدولة والحكومة والآخر. كذلك الأمر في تنظيم «داعش» إنه ليس تنظيماً ميدانياً فحسب، وإنما إرث نظري يستخدم مفاهيم أصلها تكوّن وتخلّق في رحم جماعة «الإخوان»، مثل الحاكمية، والخلافة، وتجهيل المجتمعات، والموقف من الغرب.
إن عدم هزيمة «داعش» ليس انتصاراً له، وإنما لنقصٍ في الحرب الفكرية على المكونات الأساسية التي انبنى عليها، وما كانت لتكون لولا الإهمال التاريخي للخطابات النارية، والشخصيات الإرهابية، والمفاهيم المتفجرة، والكتب المفخخة، هذه أولى مراحل المعركة الصائبة والحقيقية ضد أي تنظيمٍ متطرف، يمكن للتحالف الدولي أن يسحق المئات من الخلايا والأوكار والكهوف والقلاع، لكن لهزيمة تنظيم لديه جناح فكري علينا محاربته نظرياً وميدانياً بالتوازي، هذي هي «القاعدة» لم تمت، لكنها غير فعّالة، إنها لم تهزم، لكنها لم تنتصر، مرحلة «البيْن بين»...
الكثير من التركيز على المعركة أجدى من الإغراق في احتفالات النصر.