بقلم : فهد سليمان الشقيران
تمثل المواجهة البرلمانية العلمانية التونسية بوجه التجربة الأصولية، والتمثيل الإخواني ضربة سياسية موجعة للحزب المتهم من العلمانيين بطموحاته نحو التغيير التدريجي لهوية الدولة وإرثها العلماني العريق.
التهم العنيفة التي تُجلد بها الحركة لم يُرد عليها إلا بالمزيد من الاندفاع نحو التمدد الأممي على حساب عهد الانتماء لمؤسسات الدولة والانصياع لقوانينها.
في التاسع من يونيو (حزيران) الجاري انطلق الغنوشي على صلاحيات الرئيس بعد التصعيد الليبي الأخير، إذ رأى ضرورة التدخل في ليبيا بحجة الحفاظ على «المصالح التونسية» بينما الأقرب أنها مصالح إخوانية ضيقة ترتبط بالمدد التركي والعلاقة بالتنظيم الدولي، ومرافعة عبير موسي الشهيرة شرارة أولى لحربٍ سيشتعل أوارها بين العلمانيين والتيارات الأصولية في البلاد.
قدمت حركة النهضة الإخوانية واحدة من أكثر التجارب البراغماتية الإخوانية، التأثر الشديد لدى منظّرها الأبرز الغنوشي بحسن الترابي مع فارق الاطلاع الفقهي والديني جعل من حركة النهضة أسيرة انهيار فكري مريع. التنازلات الفقهية التي قدموها وبخاصة ما يتناول العلاقات الشخصية والحريات كلها بدع تأويلية ضمن سياق التجربة السياسية الإخوانية هدفها الهيمنة على سلطة التشريع قبل تطبيق الشريعة، ودافعه أولوية العقيدة على الفقه والشريعة، الهدف الحاكمية وليس الأحكام.
من هنا كانت تجربة منظّري «الإخوان» بتونس لها جذرها منذ زمن بعيد آخذين من مقولات الأفغاني ورشيد رضا والكواكبي ثم الترابي إرثاً لهم، على سبيل المثال أهم كتب الغنوشي: «الحريات العامة في الدولة الإسلامية» طُبع الجزء الأول منه عام 1993 وانتظر قرابة عشرين سنة ليطرح جزأه الثاني.
قدم له محمد سليم العوا، والكتاب خلاصة نظرية لطريقة إدارة «الإخوان» للدولة في حال وصولهم إلى الحكم. أستشهد بفقرة منه، إذ يقول الغنوشي في آخر الجزء الأول من الكتاب وتحت عنوان: «الخلاصة»: «لئن كانت إقامة الحكم الإسلامي الهدف القريب أو البعيد لكل جماعة إسلامية إنفاذاً لأمر الله وتحقيقاً لمصالح العباد، فإن الشريعة تضع أمام المسلم فرداً وجماعات، إذا تعذر ذلك الهدف، إمكانات بديلة لمعالجة الحالات الاستثنائية، كالتحالف مع جماعاتٍ غير إسلامية من أجل إقامة حكم تعددي، تكون السلكة فيه للفائز بالأغلبية، أو كالتحالف من أجل دفع عدوٍ خارجي - أو ديكتاتور - شرط ألا يتضمن ذلك التحالف التزاماً يضر برسالة الإسلام، أو يغل يد الدعاة عن الصدع بالحق والسعي إلى إقامة حكم الإسلام، ولو بعد حين، وكل ذلك تأسيساً على قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والنظر في المآلات، ومبدأ الضرورة وغيرها».
في عام 2003 أصدر الترابي كتابه: «السياسة والحكم - النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع». عقد خالد الحروب ندوة تلفزيونية استضاف فيها محمد أركون والغنوشي، أركون بعلمانيته، وعدته المفهومية، وصرامته المنهجية اعترض على التخبط المنهجي بالكتاب، إذ لم يطرد الترابي منهجياً، ولم يشرح للقارئ سبب الفوضى النظرية، لم يشرح المؤلف معنى: «المجتمع المؤمن»!
بينما الغنوشي بدا منبهراً بالكتاب لسببين؛ أولهما: أن المؤلف كما يقول في الندوة هو الأستاذ العلامة المجاهد المفكر الفيلسوف حسن الترابي، وثانيهما: تشبيهه للكتاب وقيمته بمقدمة ابن خلدون.
من أهم تعليقات الغنوشي على الكتاب قوله: «الترابي يريد أن يؤسس قاموساً سياسياً إسلامياً. يقول اليوم في صفحة 18: (أمُّ القضايا اليوم هي إقامة الدين السياسي أو نقاؤه)، فهو يحمل رسالة إقامة الدين السياسي بوصفها مشكلة تعيشها البشرية في الحقيقة، ويعيشها المسلمون نتيجة انعكاسات الأوضاع الدولية والفكرية الغربية عليهم، هذا الانفصال الذي سمّاه سيد قطب انفصال (النكد) بين حياة المسلم الفردية وحياته الجماعية، بين حياته الروحية وحياته اليومية، ولذلك هو يؤسس لفكر سياسي يعتبر أن هذه أُم القضايا، وبالتالي فهو ينحت مصطلحات بعضها يأخذه من القرآن، وآخر يأخذه من الفكر الحديث، من الفكر القديم، ولكن يستخدم مثلاً مفهوم الحريات والديمقراطية».
المشكلة في استخدام مفهوم الحرية، أن الهدف منها تحقق الإجماع وبالتالي تكريس السلطة وسحق إرادات الناس. من المخل اعتبار معاني الحرية التي يستخدمها أولئك بأنها امتداد للمفهوم الفلسفي، وإنما تشرحها الأهداف المرجوة منها.
لا قيمة للحرية إن كان هدفها تحقيق الإجماع في المجتمع، حينها يقوّض حتى مفهوم الشورى الذي يدعون إليه، لذلك علّق أركون على كتاب الترابي متسائلاً: «هل يمكن أن نكتفي بالمعجم الإسلامي فيما يتعلق بالفكر السياسي والفكر عامة؟! لا يمكن أن نقدم فكراً سياسياً إذا لم نعتمد على فكرٍ فلسفي. لا يمكن أن نشير إلى الفكر الغربي إشارات سطحية وسريعة من دون أن نحقق ما هي الفوارق؟ وما هي الأبعاد الخاصة بهذا الفكر الغربي؟ كما تطور وكما نعرف تاريخه، خصوصاً بعد ظهور فكر الأنوار فيما يتعلق بالسياسة، وفكر الأنوار ظهر وغيّر التفكير في الظاهرة الدينية نفسها، إذن هي القضية المنهجية الأساسية التي لا يمكن لنا أن نتجاهلها أو نتركها جانباً عندما نقرأ هذا الكتاب».
من الضروري أن تكتشف المجتمعات - ومنهم التونسيون - المخاتلة النظرية والشفهية، والاستراتيجيات السياسية التي تعمل ضمنها وعلى أسسها وضمن خطتها الأحزاب الحركية، فهم يستخدمون الديمقراطية، ويتحالفون حتى إن اضطروا مع كياناتٍ علمانية، لكن الهدف الأساسي حتى من شعار الحرية تحقيق الإجماع الإلزامي والدولة الأصولية الهمجية العدوانية والكارثية.