بقلم : فهد سليمان الشقيران
في وقت تتطور فيه جميع المؤسسات، انسجاماً مع الرؤية السياسية الشجاعة في السعودية، يبدو بعضها غير قادر على الدخول ضمن ذلك التحول. خطبة تداولها المجتمع على نطاقٍ واسع تناولت عمل المرأة بطريقة مهينة.. لم تحترم الخطبة تطور عقول المجتمع، ولم يستوعب الخطيب نهاية حقبة كاملة وطي آثارها والعمل على محو وسحق وتدمير آيديولوجيتها. لا يمكن للخطاب الديني أن يتطور من دون تجديد القائمين على المنصات من أئمة وخطباء أقل ما يوصفون به أنهم غاية في الجمود، بل أقول عنهم جهالاً لأن مثل هذه الخطابات معادية لقواعد الشريعة وكلياتها، وهي تخالف عمل النبي (صلى الله عليه وسلم) وسنته في هدي الخطبة وأدبياتها.
والخطاب الديني الذي أتيح له المجال أن يعبث بعقول المجتمع سنيناً من الدهر، في آخر المطاف نمطه مسيّس لم يرق إلى الإبداع داخل المجال الفقهي والأصولي والمقاصدي، ولا توجد رغم سيل الثرثرة والزعيق والصريخ طوال 50 سنة أي أثر فقهي إبداعي لخطاب الإسلام السياسي، يمكن مقارنته بما أفاء به فقهاء أجلاء على مر التاريخ، مثل القرافي والجويني والشاطبي. ومن يجيد التجديد الفقهي هم خارج نطاق الإسلام السياسي وأدواته.
أدمن أولئك الشعور بالمظلومية، والقلق من تصرفات الساسة، والتوجس من سلوك الحكومات. لذلك تأسست أدبياتهم ضمن قلوب وجلة من الدنيا، تخاف من التطور والعصرنة، تأنف من الآخر، وتغتبط بالذات. إن الخطاب الذي تأسست عليه أدبياتهم هو «خطاب أزمة» ولد وترعرع ضمن أحلام إعادة الخلافة، أو مواجهة الاستعمار، أو آيديولوجيا الكفاح، وليس انتهاء بجعل قضية فلسطين مدخل أي تنمية وطنية داخلية، لذلك بات صوت الخطو نحو المستقبل يثير الهلع، ويجعلهم يباشرون تفخيخ الأجساد وضغط الزناد.
لم تدرس المؤسسات طبيعة الإسهام الذي تبتغيه في المجال العام. المبادئ العامة والأسس الدينية والأبعاد التربوية والأخلاقية هي الأهم بالنسبة لمجتمعنا الذي شبع من القصف بالخطابات السياسية طوال نصف قرن مضى. لا أعرف سبباً واحداً للعجز عن الدخول بالخطاب الديني ضمن التحول المجتمعي الذي قطع شوطاً كبيراً. لم تعد «الرؤية» مجرد خطة تنموية، وإنما يمكن التعامل معها ضمن المفاهيم الاجتماعية والسياسية والثقافية وأن تأخذ تطبيقاتها بشكلٍ إيجابي حتى على مستوى المؤسسات المسؤولة عن الخطاب الديني. أعلم أن الجهد المبذول من وزير الشؤون الإسلامية كبير ومعروف، ولكن البناء والإرث الذي على عاتقه يحتم عليه التركيز بشكل أكثر كثافة على الجوامع ومنصات النصح وإطلاق الكلمات والمحاضرات والدروس والندوات.
لا خوف على الدين من أي تطور أو تحديث، حتى في ذروة العلمنة الأوروبية والثورة ضد الكنيسة بقي الدين حاضراً، وله أثره، إنما ضمن مجالٍ يمنع المتداخل معه من ابتذاله.
لذلك يكتب يورغن هابرماس، وهو من أكثر المتداخلين حول الدين وعلاقاته في المجال العام بأوروبا خاصة: «إن الدين لم يذبل تحت ضغوط التحديث، على أهمية تطوير موقف ما بعد علماني، ومدخل يأخذ بالحسبان الحيوية العالمية المتواصلة للدين، ويركز على أهمية ترجمة الاستبصارات الأخلاقية التي أتت بها التقاليد الدينية، مع الاهتمام بدمجها في منظور فلسفي... إن الممارسات الدينية والمنظورات تبقى مصادر أساسية للقيم التي تمد بالحياة أخلاقيات المواطنة المتعددة الثقافات، وهي تفرض التضامن والاحترام المتبادل معاً».
وعليه، فإن كلام المرجفين المحذرين من عواقب التطور إنما يخفي في باطنه التكفير المكثف وإنما من دون التصريح به. الفكرة أن خسارة مواقعهم التي احتلوها ردحاً من الزمن لن تكون من دون ردة فعل حتى ضمن تنظيمات كامنة تعتمد على الخلايا الصغيرة، والشِفرات التي يتداولونها بالتطبيقات التواصلية، والأوامر التي يتلقونها بطرقهم من دولٍ معادية. ردود الفعل لا تأتي فقط على هيئة عمليات انتحارية، أو اغتيالاتٍ وتفجيرات، وإنما الأخطر أن تظل تحت الأرض تنتظر ساعة الانقضاض، وما هذا الخطيب بفعلته هذه إلا زعقة فاضحة للتنظيمات الساكتة الكامنة، ونحن نعلمهم ونعلم طرقهم ومسالكهم، لكن الأهمية أن تعالج هذه الأمور بطرق ووسائل تنظيمية حاسمة تجعل ارتقاء المنبر الديني له شروطه الصارمة، ولمن يخالفها العواقب الوخيمة.. هذه هي المسألة باختصار.