بقلم :فهد سليمان الشقيران
في مجال التعليم لا يوجد أصعب من مهمة شرح نظرية أو تبسيط فكرة أو إيصال معلومة؛ لذلك أخذت مهنة التعليم شرفها الرفيع، أن تجد طريقة أو ما يعرّفها أهل أسس التربية بـ«الوسيلة» المساعدة يعني أن تقطع جزءاً من طريق الشرح الوعرة، وتغدو الطريق معبدة حين يكون المتلقي شغوفاً بالتعلم، أو هاوياً لمادة الشرح، أما إذا تمتع بعقل أجوف كالطبل فإن إقناعك له بوجود أشعة شمسٍ تكاد تذيب دماغه يحتاج إلى جهد أممي.
بمثل هذه الفكرة تشعر بالسخرية وأنت تستمع لخطابات حسن نصر الله حول الخليج... كيف يمكنك تناول خطاب كله أكاذيب ونكران للواقع، وجهل بالعالم المحيط به من دون أن تسخر منه، يتحدث عن نقطتين مضحكتين للغاية خلاصتهما أن «اقتصاد الخليج من زجاج»، و«أن مدن الخليج من زجاج»!
حين تستمع إلى هاتين العبارتين، بالتأكيد ستشعر بأن قائل هذا الخطاب، إما أنه معتوه ولا يفقه في واقعه شيئاً ومغمض العينين، أو أنه حاسد غيور منهار ومحطم ومهشم من الداخل، وفي كلتا الحالتين إنما يعبّر عن سخطٍ عميق من التنمية الصلبة التي شهدتها دول الخليج لتكون فوق أن يتم نقاش منافستها لأي دولة عربية.
نصر الله يصف مدن الخليج بأنها من زجاج وهو يخطب من بيروت فقط التي بسبب ممارسات حزبه ترزح تحت ألف طن من القمامة.
دول الخليج بتنميتها إنما تسير مع الأمم المتحضرة، ومع النمط التنموي والحداثي وحيوية الفضاء الليبرالي الغربي، وهي تتجاوز خطابات الاستهلاك للأحزاب الشمولية، والأنظمة الانقلابية، والتيارات اليسارية الخشبية، تنعم بمؤسسات تعليمية تتطور، وببنى تحتية بنيت على مدى خمسين عاماً ضمن خططٍ تريليونية، باتت مأوى أفئدة المتطلعين إلى العمل والتطور؛ ولذلك وفد إليها أكثر من نصف مليون لبناني يعلمون معنى دول الخليج ويفهمون جمال مدنها.
مدن الخليج صنعت لنفسها الجمال الباذخ الذي تمنحه لمن يسير في شوارعها، ولمن ينشد إلى شاهق بنيانها، ولكل من اطلع على عظيم تحدي أهلها لطبيعتها، إذ استطاعت الحكومات أن تحول الأراضي الصحراوية العنيدة إلى مساحاتٍ خضراء مبهجة، ولأن تشق الصخر لتسيّر جداول المياه، بينما «حزب الله» قدم إلى بيروت، المدينة الأجمل والأكثر أناقة وجمالاً ودلالاً، المدينة التي هام بها الشعراء وقصدها المؤرخون وقدّرها أهل الفن والساسة، ليزيد آلامها. مدينة وصفها نونوس البانوبوليسي في القرن الخامس بعد الميلاد بقوله: «موئل الحياة، مرفأ ألوان الحب، واقعة على البحر، فيها جزر جميلة، وأشجار ظليلة، ليست حد برزخ ضيق دقيق... أصل الحياة، حاضنة المدائن». وصف جميل وضعه سمير قصير على ديباجة كتابه «تاريخ بيروت».
والمدن الزجاجية، التي تزعج نصر الله، حين تغيب عنها بضعة أسابيع، تعود إليها وقد تغيّرت ملامحها، نضجت وازدانت، تبرق لامعة بهبات جديدة، ترى سعة في الطرق، وسعة في البناء، وفضاءً يشرح آخر المشاريع الخارقة، والفرص الاستثمارية الرابحة، فهي في تطور دائم، تنمو ويتغير جلدها بحيوية متدفقة، وتنثر دوماً سبل الاكتفاء والرفاه، ولو سألت عربياً عن المدينة التي حلم بها، لن يشير إلى نموذج طهران، ولا كابل، أو الرقة، أو أبين، أو صنعاء، ولا حتى بيروت، ولا وادي السيليكون في الضاحية، بل إلى هذه المدن الناهضة، التي بناها أبناؤها ببداوتهم، بنوقهم وإبلهم، بخيامهم ونارهم، بقهوتهم، بأحزمة بطونهم. لن يشير العربي إلى مدنٍ من بارود وقمصان سود وحمامات دم، بل إلى مدنٍ محاطة بالقطارات بالكهرباء وبالأبنية والنور، بمدنٍ سخية بأرقامها التنموية، بمعدل نموٍ اقتصادي لا مثيل له، بمعادن غنية في أرضها. وحين تسأل العربي والمسلم عن البلد الذي يريد العيش والعمل فيه، لن يشير إلى طهران، ولن يدرس تخصصه الدقيق ليعمل في المصانع والمعامل بالضاحية، بل سيذهب إلى هذه المدن التي تجملت وتزينت ببريق زجاجها اللامع والساحر.
وحين يقول نصر الله إن هذه المدن من زجاج، قد يشير مما يشير إلى عملٍ إرهابي، لابتزاز الحكومات بالطائرات المسيّرة، ويظنّ أنه ابتكر فكرة عبقرية لإغاظة دول الخليج، والواقع أن الأفكار الإرهابية ليست إبداعية. حين قرر أسامة بن لادن اختطاف طائرات لضرب برجين مليئين بالعاملين والمكاتب لم يصنع خيراً للبشرية، ولم تعتبر هذه الفكرة ضمن منعطفات العلم في تاريخ البشري. أفكار التدمير سهلة ومجالها كبير، التفجير والانتحار وطراطيع الصواريخ الباليستية، ولعبة الدرونز يمكن لأي معتوه أن ينفذ بها عملية، العبرة بالقدرة على البناء في هذا الكون، كيف يمكن للإنسان أن يمتلك كل المواصفات الطبيعية للإنسان السوي أن يعمل مع إخوته في البشرية للبناء والتنمية والتعمير، وإلا فالهدم وأفكاره، والإرهاب وطرقه، والتفجير وأساليبه يمكن لأي معتوه من حفاة الإرهابيين بين الكهوف والجبال أن ينفذها.
في آخر المطاف، من المثير للسخرية والتهكم أن توصف مدن مثل الرياض وجدة أو دبي وأبوظبي والمنامة بأنها من زجاج، لتدع بيروت أولاً وشأنها لتعود إلى جمالها، ولتكون مدينة من كهرباء وحاويات، قبل أن تسخر من أنجح نماذج التنمية بالمنطقة في التاريخ الحديث.
ليت مستقبل كل دول المسلمين والعرب المزيد والمزيد من المدن الجميلة، مدننا الوادعة السخية، «مدن من الزجاج».