بقلم : فهد سليمان الشقيران
في تاريخ الفلسفة ترتبط فلسفات بأسماء شراحها، بهم تتمدد وتحضر، وإمام عبد الفتاح إمام الذي رحل عن دنيانا قبل أيام يمثل ظاهرة فريدة في الفلسفة العربية، إذ يشكل مع جيلٍ من الشراح الكلاسيكيين نقطة اتصالٍ ضرورية بين العرب والفلسفة الغربية، حال عبد الرحمن بدوي، وخليل رامز سركيس، وفؤاد زكريا، وإدوارد البستاني، وسواهم من الكبار الذين أخذتهم همة نادرة بأن تترجم الفلسفة الغربية للعرب، منطلقين من قناعة راسخة بضرورة الفلسفة لتطور وعي الفرد، وأهمية دورها في استلهام المجتمعات لتجارب الآخرين. الراحل إمام عبد الفتاح إمام لدينا - نحن العرب - أشبه بجان هيبوليت لدى الفرنسيين، كلاهما رسَّخا جهدهما لترجمة هيغل وشرحه، هذا مع اختلافهما مع هيغل، فإمام يساري النزعة، وهيبوليت فيلسوف وجودي، بينما هيغل ناحت الجدلية، وراسم منهجه الاستثنائي في فلسفة التاريخ، ومقدم أصول فلسفة الحق، والمغامر في ظاهريات الروح أخذه التحليل الفلسفي للمجتمع لمفازات الانتصار للدولة المدنية المتكونة على تصدعاتٍ شهدها مثل انتصار الثورة الفرنسية (التي يعتبرها أساس تطور الألمان ودخول المدونات القانونية لديهم، بفضل النابليونية) حتى وصفه كارل بوبر بأنه «خادم سيده ملك بروسيا». علما بأن علاقة الفلاسفة بالملكيات لها تاريخها منذ فولتير وديكارت وكانط وبيكون وغيرهم.
أخذ إمام على عاتقه نقل وشرح فلسفة هيغل، وقدم للمكتبة العربية كنوزاً فريدة، يختلف المترجمون حول المستويات التي تقدم كما يقرأ البعض، باعتبار الترجمات التي تطبع لم تصل إلى المستوى الذي قدمه الجيل اللاحق لإمام وسواه من الكلاسيكيين، لكنه وفي «موسوعة العلوم الفلسفية» و«أصول فلسفة الحق» رسخ كل إمكاناته الفلسفية واللغوية، وكل طرق التبسيط لجعل نص هيغل الوعر بمتناول اليد، ليس سهلاً أن تشرح الديالكتيك، أو نظرة هيغل للتاريخ، أو مفهوم هيغل للشخص، أو معنى الدولة، ولكنه أجاد بشهادة مجايليه ومناوئيه بأن سد ثغرة في المكتبة العربية لم تكن لولا جهده هو في عشرات الكتب التي طرحها بكل همّة واقتدار.
قدّم لنا إمام كتاباً أراه غاية في الروعة والثراء حين ترجم كتاب «معجم مصطلحات هيغل» لمؤلفه ميخائيل أنوود، وأضاف إلى الترجمة شرحاً مقارناً للمفاهيم التي تضمنتها ورشة هيغل الفلسفية، وهذه صيغة قلما نجد لها أنصارها في المكتبة العربية، وحتى الآن يمكننا تقديم معاجم لمصطلحات حتى مفكرينا وفلاسفتنا... لماذا لا نطرح (معجم مصطلحات العروي، ومعجم مصطلحات أركون، وجعيط، وناصيف نصار، ومطاع صفدي) وسواهم، كما تفعل الأمم مع فلاسفتها، كما فعل جوديث ريفال مع ميشيل فوكو في كتابٍ ترجمه الزواوي بغورة بعنوان: «معجم ميشيل فوكو»؟ فالفلسفة عدة من المفاهيم مثلما هي خرائط ودروب ومناهج، هذه قيمة ترجمة إمام لمعجم مصطلحات هيغل، حتى المفهوم الواحد تتنوع قراءته بين شارحٍ وآخر، لنقرأ نيتشه بعين هيدغر، ونقارنه بشرح دلوز، ونرى المفارقات اللافتة في كراريس فوكو عنه، تجد كثيرا من الاختلافات الخلاّقة وذلك انطلاقاً من ثراء المفهوم، مفاهيم مثل «الجينالوجيا، والشيء في ذاته، والدازاين، والظاهرة» نراها تأتي بالتماعاتٍ متعددة، إذ يضيء المفهوم مع رسم شارحه، وتأويل مترجمه.
البعض يلوم الجيل الكلاسيكي، تارة بسبب عدم التزام عبد الرحمن بدوي بالهوامش، أو ترجمات إمام من الإنجليزية، أو بالشرح المختصر السطحي، وهذه قراءات نقدية مهمة، لكن هؤلاء في جيلهم قدموا مؤلفاتٍ ثرية لا تزال موضع إفادة للقارئ.
لقد تطوّرت الترجمة العربية للفلسفة بفضل سببين، أولهما: تطوّر التعليم وبزوغ جيلٍ لديه القدرة على ترجمة النص الفلسفي من لغته الأصلية، من دون الالتزام بالنص الإنجليزي، لكن هذا وحده لا يصنع ترجمة نافذة. ثمة من يفضل «نقد العقل المحض» لكانط بترجمة موسى وهبة وهي من الإنجليزية، على ترجمة غانم هنا من الألمانية مباشرة، ولكن بشكلٍ عام فإن الذي قدمه مطاع صفدي، وجورج أبي صالح، وسالم يفوت، وغانم هنا، وفتحي المسكيني، وكاظم جهاد، وأبو يعرب المرزوقي، يعتبر منطقاً أساسياً لتعديل الأخطاء على بعض الترجمات الاجتهادية، مع الاعتراف بدور المتقدمين. ثاني ملامح تطور الترجمة: أن مفهوم الترجمة اختلف، وذلك مع تطوّر النظرية اللغوية، حيث يعتبر مثلاً عبد السلام بنعبد العالي أن كل ترجمة هي شرح، وأن التأويل حاضر حتى في الترجمة، إذ تمتنع المطابقة، وهذا مهم للغاية، وحين التقيتُ الفيلسوف الراحل مطاع صفدي شتاء عام 2008، سألته عن ترجمته لكتاب دلوز وغيتاري «ما الفلسفة» فقال إنه اختار الطريقة اللغوية الجمالية لترجمة نصٍ جميل مثل الذي كتبه دلوز، وأضاف: «كنتُ أذهب إلى جيل دلوز وأقرأ عليه بعض ملازم الكتاب، وكان يستمع بإنصاتٍ إلى اللغة العربية طرباً بها مع أنه لا يفهمها»، ومع ذلك أخذ البعض على صفدي الإغراق في الاختزال اللغوي، ولكنني أرى ترجماته رصينة وبليغة والحواشي التي يقدمها في الترجمات والمؤلفات تبين مستوى من الاطلاع على أحدث المفاهيم الفلسفية الغربية.
من المفارقات، أن هيبوليت حين شرح وترجم هيغل إلى الفرنسية، تمت ترجمة شروحاته تلك إلى الألمانية، فصار مرجعاً - حتى - لدى الألمان لفهم هيغل، ولنقرأ ما كتبه ميشيل فوكو في كتابه «جينالوجيا المعرفة» عن هيبوليت وعليه فإن الذي قدمه إمام عبد الفتاح إمام جهد جبار، أثرى به القارئ العربي، واستطاع أن يختصر عمره كله لمشاريع الشرح والترجمة، وهذا أمر نادر في زمن قل فيه من يهتم بالمتون الرصينة، حيث طوفان التفاهة يجتاح كل شيء، فله منا الشكر الجزيل والامتنان العميق.