بقلم : فهد سليمان الشقيران
هذه المظاهرات المليونية في لبنان، أشعلت مصابيح الليل بهتافٍ لاعنٍ للطائفية، شبّ الفتيان عن الطوق، يسألون: ما قيمة الديمقراطية التي تحرس الطائفة وزعيمها؟!
يسأل مصطفى فروخ في مذكراته «قصة إنسان من لبنان» الذي رمز لشخصيته باسم «سليم» قائلاً: «بالله! ما معنى هذه الحياة الرتيبة المملة القائمة على الرياء والكبت والملق؟ وما معنى هذه الحياة التي يدور محورها على صغائر الأمور من طعام ممرغ بالوحل، وبيع للنفس والكرامة، وتمريغ للوجوه على الأعتاب، والتملق صباح مساء لمن تعتقد بدناءتهم وكذبهم وضلالهم؟!». استفهام طرحه الفنان في منتصف الخمسينات من القرن العشرين، لا يمكن للفرد أن يقوم بجهده الدنيوي، من دون دولة حديثة تتعامل مع الإنسان بكينونته وفرديته، لا بقبيلته أو طائفته، هذا هو عصب العقد الاجتماعي وأساس النظرية السياسية.
لم تستطع الديمقراطية أن تنجح في لبنان؛ لأنها مفصولة عن فضائها العلماني، وعن تأثيرها بالمجال الاجتماعي. الديمقراطية مفهوم فقير دائم لفضاءات مصاحبة، وبخاصة منها العلمنة السياسية، والتواصلية الاجتماعية، وتثبيت الحوار العمومي، وتأسيس المساواتية بين الأفراد، وما من تراتبية في نظامٍ ديمقراطي، والأفضلية تحددها معايير العدالة المنصفة، لنقرأ جون راولز في نظريته المطوّرة للعقد الاجتماعي «العدالة كإنصاف».
وحول ما تقدم ينقل جورج طرابيشي السجال حول العلمانية والديمقراطية في عدد من كتبه منها: «في ثقافة الديمقراطية»، و«هرطقات»، في الأخير يقول: «إذا كانت العلمانية قد نقلت (ربما في منتصف القرن الماضي) عن الغرب، فما ذلك من قبيل التغريب والتقليد الببغاوي، بل كان هذا النقل مسكوناً هو نفسه بهاجس محلي، وهو هاجس الحوادث الطائفية في جبل لبنان عام 1840، والمذابح الطائفية في بيروت ودمشق عام 1860. وبدلاً من ربط العلمانية بالتغريب (كما يفعل بوجه خاص حسن حنفي)، فلنقل إن العكس قد يكون هو الأصح. ففي مصر وسوريا، وعقب الاحتلالين الإنجليزي والفرنسي، جاءت مبادرة رفع شعار العلمانية من قبل الوطنيين والقوميين، من مسلمين ومسيحيين على السواء، وذلك رداً على محاولة الاستعماريين الغربيين الضرب على وتر التفرقة الدينية و(تطوير) الحساسيات المذهبية إلى (مسألة طائفية) تكون بمثابة رديف تبريري وتدعيمي للمسألة الكولونيالية».
وأساس المعضلة الديمقراطية بنموذجها التوافقي بلبنان ضعف الوعي السياسي بمضمونها، ومسار العلمنة ضمن إطارها، كان الرئيس ميشال عون في المنفى بباريس، وقبل الأوبة إلى الديار بشّر الحواريون من فريقه أنه من أنصار الدولة العلمانية، وعلى هذا الأساس تعاملت معه قوى وأسماء فكرية باعتباره أمل تحويل الدولة إلى العلمنة، لكن سرعان ما تكشّفت الأوهام؛ وضع يده مع حزب ميليشياوي بتحالف رجعي، وكشّرت «العونية السياسية» عن أنيابها الطائفية في جميع الخطابات والممارسات السياسية، قبل رئاسة عون وبعدها.
أما جبران باسيل فإن كان هو الشارح لمتون عون الوعرة أو المنفّذ لوصاياه فتلك ظلمات بعضها فوق بعض، وما كان خطاب الثلاث والعشرين دقيقة قرب القصر الرئاسي كشف العي في فهم الدولة، وفضح الاحتقار لمطالب يريدها اللبنانيون المنتفضون في الساحات ضد الطائفية والتمدد الإيراني.
يمكن البناء على هذه الانتفاضة العربية ضد الطائفية وأذرع إيران الإرهابية لإيجاد فضاء سياسي مدني ليبرالي وعلماني يجعل الديمقراطية مؤثرة ومشاركة في رسم الشكل الاجتماعي، وأسس التداول البيني، يشرح طرابيشي: «الديمقراطية هي في التحليل الأخير ثقافة ومنظومة قيم متضامنة. وفي مجتمع لم ينجز تحديثه المادي والفكري ولم يستكمل ثورته التعليمية - يجب التذكير بأن عدد الأميين العرب يزيد على المائة مليون! - فإن الموضع الأول لتظاهر الديمقراطية ليس في صناديق الاقتراع وحدها، بل كذلك، وربما أولاً، في الرؤوس. فالديمقراطية لا يمكن أن تكون نظاماً فصامياً. فهي لا يمكن أن تكون نظاماً للحكم من دون أن تكون نظاماً للمجتمع... إن الصندوق الأول الذي تنطلق منه وتختمر فيه هو جمجمة الرأس. وإن لم يتضامن صندوق الرأس مع صندوق الاقتراع، فإن هذا الأخير لن يكون إلا معبراً إلى طغيان غالبية العدد».
يسهم عبور لبنان من النظام الطائفي إلى المدني في تخفيف السعار العاطفي الجارف بين الأتباع؛ إذ رسّخت التجربة العقيمة نفس الانتماء إلى الطائفة حتى لدى الملحدين، كما حدث في حوارات ما بعد الأزمة السورية بين مفكرين ملحدين، أحدهما ينتمي للسنة والآخر للعلوية، رفعت الغطاء عن خراب فكري ثاوٍ في أعماق الذات، وهذه مشكلة أساسية بمفهوم الدولة والهويّة الذاتية، يدفعهم إلى اللوذ بالانتماء الطائفي حفاظاً على البقاء، أكثر منه التزاماً بالدين والشعائر، وهذا أسوأ شكل للنمط الطائفي.
يناور الساسة لامتصاص الغضب، والخطر من الخضوع لأنياب أحزاب إيران المسيحية والمسلمة في لبنان، والحال كما قال الشريف الرضي:
لا تأمنن عدوّا لان جانبه *** خشونة الصل عقبى ذلك اللين