بقلم : فهد سليمان الشقيران
تروي التقنية سيرتها منذ منعطف القرن الثامن عشر، حتى القرن العشرين، ما انفكّت عن طرح راهنيتها لتدخلها في المجالات العلمية والعملية، وقبل ذلك في تأثيرها على السلوك الإنساني. لم تقتصر المسألة على الآلات البدائية والثورة الصناعية، ولا القنبلة الذرية، وإنما تطوّرت آثارها على المجتمعات البشرية تبعاً لتغير تطبيقاتها، وتحوّل نقاط الاكتشاف التجريبية. لم تقتصر على شذرات نيتشه، ولا محاضرات هيدغر في التقنية، ولا حتى كتابات هابرماس حول الآيديولوجيا والتقنية، وخصوصاً كتابه: «العلم والتقنية كآيديولوجيا» الصادر عام 1968؛ بل إن التقنية تزحزحت تدريجياً عن الأنماط، وما عادت المؤثر الجزئي كما في تغير قيم التعليم الجامعي، أو أساليب الاختبار الطبي، وإنما بدت مثل طوفان جارف صار معها الإنسان جزءاً منها، وليست جزءاً منه.
ولذلك فإن هابرماس في كتابه آنف الذكر، وفي تاريخ نشره القديم نسبة لتطور التقنية وعلاقاتها، يطالب الجامعات بعدم الانكفاء عن هبات التقنية في عملية البحث، مع أنه وفي فصلٍ خصصه لدرس التقدم التقني وعالم الحياة الاجتماعية، يرى: «ضرورة انطلاق التقنية من العلم، وأعني بذلك السلوك الإنساني، ليس بأقل من السيطرة على الطبيعة. عند ذلك يطالب باحتواء هذه التقنية في عالم الحياة العملي، واسترجاع التحكم التقني للمجالات الجزئية في تواصل الناس الفاعلين حقاً بالتأمل العلمي».
معلومٌ نذير هيدغر حول التقنية في كتاباته، ووصفه لها بـ«ميتافيزيقا العصر»، وتوشك أن تتحكم بالإنسان، ولكن التحوّلات مشهودة تقنياً بمختلف المجالات، سواء على مستويات التعليم، أو الإدارة ونمط المؤسسة، أو الأفكار وطريقة حلها وتداولها، إذ يمكن للروبوت أن يقوم بترتيب كتاباتٍ وأفكارٍ معينة، وأن يعمل بمهنٍ أساسية، هي من صميم عمل الإنسان ومن جوهر كينونته، مثل البيع، أو صرف الدواء، أو القيام بمهام دقيقة.
ولأن هابرماس فيلسوف التواصلية والنقاش العمومي، والمحاورة، والفهم، فإن التقنية اليوم أخذت مسارها الخاص، إذ صارت وسيلة تحديد وتشخيص، أكثر منها وسيلة محاورة وفهم. وخصوصاً في التقنيات اللصيقة بالإنسان في سلوكه اليومي، مثل الأجهزة الحديثة بكل حمولتها وتطبيقاتها. أما الشبكات ومصادر المعلومات التقنية، فقرّبت المعلومات لكنها لم تعزز سبل تطوير التفكير وأدوات الفهم، ورغم توفر الكم المهول من المعلومات والتواريخ والأحداث التي كان الباحث يقضي أياماً للبحث عنها، فإن وسائل التحليل في تراجع، لأسبابٍ تحتاج إلى متخصصين لدراستها وفهمها.
والتقنية لم تفتح آفاق الحوار والتلاقي، وإنما عززت من فرص الانغلاق والانكفاء. ويشعر الإنسان وهو في ذروة عزلته المظلمة بسبب وميض جهازٍ بين يديه أنه مع العالم وبجوار الناس، والحقّ أن هذا وهم محض، لا يعزز قيم التواصل الوجودي بين بني البشر.
من اللافت أن إدغار موران - وهو الفيلسوف المعاصر - ألّف حول هذا الموضوع كتاباً بعنوان: «في مفهوم الأزمة»، وفيه يتحدث عن «ما بعد الإنسانية» و«الانحسار نحو الانغلاق»، وفي حوارٍ معه نشر في المقدمة يشرح نظرته: «في هذا الكتاب، تحدّثت بالفعل عن أزمة الإنسانيّة التي لا تكتمل إنسانيّتها. ويبدو لي استخدام هذا المفهوم دقيقاً، إذ إنّ العولمة عمليّة قد بدأت منذ قرون، مع غزو الأميركيّتين ثم غزو العالم على يد الغرب؛ لكننا شهدنا منذ التسعينات عولمة تقنيّة واقتصاديّة متسارعة، وذلك في ظل تعميم الاتصالات العالميّة في كلّ المجالات، وهو ما خلق مصيراً مشتركاً لكل البشر الذين أصبحوا يواجهون المشكلات والمخاطر نفسها، سواءً تلك المحدقة بالمحيط الحيوي البيئيّ، أو انتشار الأسلحة المدمّرة، ولا سيما النوويّة، أو الاقتصاد الذي يزداد انفلاته، أو الهيمنة الخارجة عن السيطرة للماليّة العالميّة».
يضيف: «نحن أمام أزمة الإنسانيّة التي لا تكتمل إنسانيّتها، وهذا استعمال آخر لكلمة أزمة؛ لكنّ الكلمة هنا أيضاً (مضَخّمة)؛ لأنّ الأزمة اليوم في كلّ مكان، بداية بالأزمة الاقتصاديّة الموصوفة التي لم يتوقّعها أغلب الاقتصاديين؛ بل على العكس، أعلنوا نهايتها! رغم كلّ شيء، يبدو لي أنّ استعمال كلمة (أزمة) مبرّر وفقاً لما قلته سابقاً: عصر غياب اليقين؛ خصوصاً فيما يتعلّق بالمستقبل، وهو عصر يتصف بتشعّب الإمكانات، بما في ذلك إمكانية حدوث أسوأ الكوارث البيئيّة والنوويّة والسياسيّة. (ما بعد الإنسانية) (le transhumanisme) على سبيل المثال، ينبِئُ بابتهاج بعصر جديد للبشريّة – وهو أمر ممكن جزئياً – مع إمكانيّة العيش لفترة أطول والحفاظ على الشباب، والتحرّر من الأنشطة المملّة وغير الضروريّة عبر تعميم الروبوتات، بما في ذلك ضمن أنشطة نفسيّة وفكريّة؛ لكن، لئن وُجِد تقدّم علمي وتقني لا جدال فيه، ذو طابع انعتاقي ومُحوِّل، فهناك بالتوازي نموّ للاحتمالات الكارثيّة، حتّى لو كان ذلك فقط لأنّ الوعي البشري، بالمعنيين الفكري والأخلاقي، قد أصبح في كلّ مكان تقريباً متخلفاً. نحن نعيش وحدة مصير، وهذا أمر واقع؛ لكن الوعي لا يتقدّم، فالعولمة التقنية والاقتصاديّة بطابعها الغامض والمغربن، تثير في كلّ مكان تقريباً توجّهاً نحو الانحسار والانغلاق».
وموران معروف بمثابرته في تحليل وتقصي وفلسفة ما يعتور الحياة البشرية وأطوارها وأعطالها. والكتاب لا يهدف فقط لفهم الأزمة الإنسانية تجاه ثورات تفتت الاجتماع، أو انعدام القدرة على التواصل وتراجعها، ولا لضرب أمثلة سوداوية حول مصائر الإنسان بين يدي تقنية صنعها ونحتها ثم انقلبت عليه وطوّقت عنقه؛ بل درس حتى أسباب صعود اليمين، أو مدى قلق المجتمعات البدائية من التأثير الغربي وانعكاسه على الأداء اليومي، أو الوعي الوجودي.
لقد أسهمت التقنية في رفع مستوى الإنسان على مستويات كبرى، وخصوصاً العلمي والعملي منها، ولكن شقّ استحداثها لمخطط اجتماعي شبه مطقّم في التفاعل والتواصل. وهذا يعني أن نراجع موقع ذاتنا من هذا العالم.