بقلم : محمد زهران
تخيل أنك تعمل فى البحث العلمى فى تخصص ما وأثناء قراءة بحث مرتبط بعملك قررت أن تعيد التجارب المذكورة فى ذلك البحث حتى تبنى عليها وتحسنها فى بحثك الجديد، لكنك فوجئت أن نتائج التجارب مختلفة بقدر كبير عن النتائج المذكورة فى البحث الذى تقرأه، أعدت التجارب عدة مرات لكن النتائج مازالت مختلفة، هذا يجعلك تشك فى هذا البحث المنشور أو تشك فى تجاربك أنت، فى كلتا الحالتين سيؤدى ذلك إلى تباطؤ سرعتك فى مشروعك البحثى. هذا السيناريو للأسف ليس نادرا، بل هو متكرر كثيرا جدا ويحتاج إلى مواجهة حاسمة.
منذ عدة أيام جاءتنى دعوة كريمة لإلقاء كلمة فى ورشة عمل للصحفيين العلميين العرب وقد اخترت موضوع الأبحاث التى لم يمكن إعادة تجاربها والحصول على نفس النتائج (research irreproducibility)، هذه مشكلة كبرى فى البحث العلمى تجعل النتائج المنشورة مشكوكا فيها مما يؤثر على سرعة التقدم العلمى لأن التقدم العلمى يقوم على شيئين: الدقة فى تحكيم الأبحاث والقدرة على الاستفادة من الأبحاث المنشورة. إذا لم يتمكن الباحثون من إعادة تجارب منشورة من باحثين آخرين فلن يثقوا فى هذا البحث وبالتالى لن يتمكنوا من الاستفادة منه.
فى بحث استقصائى كبير قامت به مجلة (Nature) فى 2016 وجدت أن أكثر من 60% من الأبحاث المنشورة فى العلوم التطبيقية لا يمكن إعادة تجاربها والحصول على نفس النتائج، فى تخصص مثل الكيمياء لا يمكن إعادة 85% من التجارب وقريب من 78% فى العلوم البيولوجية و68% فى الطب إلخ. هذه الأرقام مفزعة والموقف لم يتحسن كثيرا فى أيامنا هذه، ما أسباب هذه الظاهرة التى إن اختفت لتسارعت وتيرة البحث العلمى ومن ثم تحسن حياة الناس بشكل كبير؟
هناك عدة أسباب لذلك، مثلا الأجهزة المستخدمة لعمل التجارب فى البحث المنشور غالية الثمن جدا أو يصعب الحصول عليها على المجموعات البحثية الأخرى ومن ثم لا يستطيعون إعادة التجارب والبناء عليها، سبب آخر هو عدم ذكر كل تفاصيل التجارب من أجهزة وإحصائيات إلخ فى البحث المنشور ومن ثم لا تستطيع المجموعات البحثية إعادة إنتاج نفس التجارب، سبب آخر هو أن الباحث صاحب البحث المنشور لم يأخذ عاملا ما فى التجارب فى الاعتبار (نتيجة سهو أو نقص فى معلوماته) وبالتالى لم يذكره فى البحث وبالتالى عندما تحاول مجموعة بحثية أخرى إعادة نفس التجارب لن تأخذ هذا العامل فى الاعتبار والذى من الممكن أن يكون له تأثير كبير على النتائج، سبب آخر هو السبب الأخلاقى أى أن الباحث نشر نتائج خاطئة عن عمد ليتمكن من نشر البحث وهذا للأسف يحدث كثيرا، حاول البحث فى الإنترنت على شخص يسمى (Jan Hendrik Schön) وسترى العجب، هذا الشخص كاد أن يفوز بجائزة نوبل بتلك النتائج المختلقة التى لم تتمكن مجموعات بحثية كثيرة من إعادة تجاربه والحصول على نتائج شبيهة بها.
نتيجة ذلك كله أن الباحث أو المجموعة البحثية التى لم تستطع إعادة التجارب المنشورة والحصول على نفس النتائج فستنشر النتائج التى حصلت عليها وبذلك سنجد أبحاثا منشورة تعطى معلومات متضاربة أو على الأقل ليست متناسقة: مثلا بحث يقول إن هذا المركب يعالج مرضا ما فى 90% من الحالات وبحث آخر يقول إن نفس هذا المركب يعالج نفس المرض لكن فى 50% من الحالات، إذا أردت كصحفى علمى كتابة مقال عن هذا المركب لأنك وجدت أن الكثيرين يستخدمونه فماذا ستقول؟ أولا يجب عليك أن تعطى القارئ الصورة الكاملة أى نتائج كل تلك الأبحاث، ثم يجب عليك أن تتواصل مع المجموعات البحثية التى تتكلم عنها فى مقالك وتسألها عن نتائج المجموعة الأخرى، ثم تتواصل مع خبير من خارج كل تلك المجموعات وتسأله عن رأيه. هذه المعلومات مفيدة للقارئ وأيضا فكرة أن هناك معلومات متضاربة منشورة فى حد ذاتها قصة قد تكون مثيرة للقارئ.
فى النهاية أحب أن أهمس فى أذن باحثينا الشباب ببعض الأسئلة: هل جربت أن تعيد تجاربك البحثية بنفسك وتحصل على نفس النتائج؟ لأنك إن لم تستطع ذلك فلن يستطيع الباحثون الآخرون إعادة إنتاج تجاربك، هل تضع ما يكفى من المعلومات فى بحثك كى يتمكن الآخرون من إعادة إنتاج تجاربك؟ هل تهتم أصلا بأن يتمكن الآخرون من إعادة إنتاج تجاربك والاستفادة من أبحاثك أم أنك فقط تريد الترقية؟ أم أنك تريد جائزة ما؟