بقلم : محمد زهران
منذ أكثر من عشر سنوات والمنافسة محتدمة بين الصين وأمريكا حول الوصول إلى كمبيوتر فائق السرعة تصل سرعة إلى ما يسمى اكزاسكيل (exascale)، اليابان تنظر للمنافسة من المركز الثالث ودول الاتحاد الأوروبى تنظر من بعيد، هذا الاسم المعقد للكمبيوتر فائق السرعة معناه أن هذا الجهاز يمكنه عمل (واحد وبجانبه ثمانية عشر صفر) عملية حسابية فى الثانية الواحدة. الوصول لهذه السرعة معناه نظم محاكاة وتحليل قوية جدا بإمكانها عمل قفزات واسعة فى الطب وفى التأمين والتشفير وفى تصنيع الأسلحة إلخ. كانت المشكلة التى تواجه الدول أن جهازا بهذه السرعة يحتاج كما مهولا من الطاقة، وحيث أن الممول الرئيسى لهذه النوعية من الأجهزة فى أمريكا هى وزارة الطاقة فإن المطلوب هو الوصول لتلك السرعة وعدم استهلاك طاقة أكبر من قدر معين حددته الوزارة. هذا طبعا وضع الشركات ومعامل الأبحاث فى مأزق علمى، واستمرت الأبحاث العلمية سنوات طويلة. الصين أيضا كانت تواجه نفس المشكلة لأن استهلاك طاقة كبيرة له تأثير سيئ اقتصاديا وبيئيا أيضا. المهم أنه فى مايو من هذا العام نجحت أمريكا فى تصنيع هذا الجهاز وأسمته (Frontier) وتركيبه فى معامل (ORNL) المملوكة لوزارة الطاقة الأمريكية وبتكلفة تخطت النصف مليار دولار. السؤال هنا: إذا افترضنا جدلا أن أمريكا أعطتنا فى مصر هذا الجهاز هدية فهل نقبله؟ وهل سنستفيد منه؟ قبل أن تقفز عزيزى القارئ إلى الإجابة بنعم دعنا نحلل الموقف.
جهاز مثل هذا يحتاج إلى كم كبير من الطاقة حتى مع التصميم الجديد الذى قلل من استهلاكه للطاقة، لنقل إنه يحتاج طاقة تكافئ حيا صغيرا فى القاهرة، فهل نحن على استعداد لدفع تلك التكلفة؟ الاستفادة من هذا الجهاز تستلزم كتابة برمجيات بطريقة مختلفة تماما عما يتم تدريسه فى جامعاتنا، ما يتم تدريسه هو فقط المبادئ والقشور لهذه النوعية من البرمجة. هذه النوعية من الأجهزة تحتاج إلى صيانة مستمرة، فهل نحن على استعداد وعندنا القدرة على ذلك؟ وأخيرا وليس آخرا هل عندنا مشكلات تحتاج فى حلها إلى جهاز بهذا الحجم والتكلفة فى الصيانة والطاقة إلخ؟
ما أردت قوله إننا لا يجب أن نحاول الحصول على أحدث التكنولوجيات بدون تفكير لأن النتيجة قد تكون تكلفة كبيرة على خزانة الدولة دون عائد حقيقى. لكن هنا يأتى سؤال مهم: ماذا يجب أن نفع حيال هذه النوعية من التكنولوجيات الحديثة جدا؟ الإجابة أننا يجب أن نستعد لها، كيف؟
نستطيع الحصول على جهاز أصغر وأرخص لكن يعتمد على نفس الطريقة فى البرمجة، بل يمكن تجميعه عندنا فى مصر بتكاليف أقل، ثم نبدأ بتدريب طلبة الهندسة والحاسبات على برمجته وعقد مسابقات بينهم لاكتشاف تلك المواهب. الخطوة الثانية هى تنمية تلك المواهب وتكليفهم باستخدام هذا الجهاز لحل (أو محاولة حل) بعض المشكلات التى نحتاج إلى حلها فى مصر مثل الصناعات الدوائية وتطبيقات للذكاء الاصطناعى فى مجالات عديدة وبناء نظم محاكاة للطرق والمرور وتصميم أجهزة إلخ. هذا من ناحية البرمجة. الباحثون فى مجال تصميم لغات البرمجة يمكنهم دراسة، بل وابتكار لغات برمجة جديدة مبتكرة لهذه النوعية من الأجهزة. الباحثون فى مجال تصميم الحاسبات يمكنهم دراسة وتجربة وسائل تطوير هذا الجهاز ليكون أسرع ويستخدم طاقة أقل ويصاب بأعطال أقل ويصعب اختراقه. بعد عدة سنوات سنكون مستعدين للحصول على جهاز مثل الذى ذكرناه أعلاه، بل وبناء ما يقاربه.
التعاطى مع أحدث التكنولوجيات يجب أن ينبع من عدة محاور: هل نحتاج تلك التكنولوجيا الحديثة جدا فى بلادنا الآن؟ هل نستطيع التعامل معها لحل مشكلات ملحة عندنا؟ هل نملك ثمنها وثمن صيانتها؟ هل عدم استخدام تلك التكنولوجيا (أو التأخير فى استخدامها) سيكون له تأثير على علاقتنا بالعالم الخارجى؟ مثلا إذا كنا تأخرنا فى استخدام التكنولوجيا الرقمية سيكون تبادل البيانات والتعامل الخارجى، بل والداخلى أبطأ بكثير. هل لهذه التكنولوجيا تبعات اجتماعية يجب أن نكون مستعدين لها؟ مثلا السيارات ذاتية القيادة (عندما تصبح جاهزة للاستخدام على نطاق واسع) تعنى أن مهنة القيادة ستتقلص بشدة، فهل نحن جاهزون لذلك؟
الإجابة على تلك الأسئلة سيحدد متى يجب أن نستخدم تكنولوجيا جديدة ومتى يجب أن نتمهل، لكن فى كل الأحوال يجب أن نكون مستعدين لها كما أسلفنا القول. عندنا فى مصر مواهب ضخمة فيما يتعلق بالعلم والتكنولوجيا، حسن توجيه تلك المواهب سيجعلنا مصدرا للتكنولوجيا وليس فقط مستخدمين لها.