هذا الأسبوع لا يسعني إلا أن أخرج عن موضوع مقالاتنا هنا عن سير علمائنا وحياتنا العلمية وأتكلم في موضوع أثر في شخصياً، إنه العراب ... إنه من علم الشباب أن يقرأ ... إنه من أثر في مستقبل هذه الأمة تأثيرأ سيمتد لسنوات طويلة... إنه الدكتور أحمد خالد توفيق.
قبل أن نسترسل في حديثنا دعنا نستعيد مشهدين من التاريخ.
المشهد الأول: يوم الثلاثاء 16 يناير 1950 في الساعة الحادية عشرة صباحاً، نشهد يوم حزين إتشحت فيه مصر بالسواد، إنها جنازة الدكتور علي مصطفى مشرفة حيث حُمل جسده الطاهر من مسجد عمر مكرم إلي جامع الكخيا بميدان الأوبرا محمولاً على أعناق طلبته ويسير أساتذة الجامعة بالروب الجامعي الأسود في مشهد مهيب كما يصف الدكتور عطية مصطفى مشرفة في كتابه الجميل عن شقيقه "دكتور علي مصطفى مشرفة ثروة خسرها العالم"، وقد علم شقيق الدكتور مشرفة الآخر (الدكتور مصطفى مصطفى مشرفة وكان مقيماً بأمريكا في ذلك الوقت) بوفاة شقيقة من وكالات الأنباء قبل أن يصله تلغراف الأسرة!
المشهد الثاني: اليوم الذي مات فيه عالم الفيزياء الكبير ريتشارد فاينمان تسلق طلبة من جامعة كالتك مبنى المكتبة ووضعوا لافتة ضخمة مكتوب عليه "نحبك يا ديك" (وديك هو تدليل لإسم ريتشارد).
لنعد إلى واقعنا وقد فجعنا في وفاة الدكتور أحمد خالد توفيق عن 56 عاماً وهي سن صغيرة نسبياً ونتذكر هنا أن الدكتور علي مصطفى مشرفة توفي في سن 52 وسيد درويش في سن 31 وعبقري الرياضيات سرينيفاجا رامانوجن (Srinivasa Ramanujan) في سن 32 وعالمة الكيمياء العبقرية روزالين فرانكلين (Rosalind Franklin) في سن 37 وإذا تتبعنا سير العلماء والمفكرين العظماء سنجد الكثيرين ممن توفوا قي سن صغيرة ... عندما ننظر إلي ذلك نحس أن هؤلاء العباقرة كانوا كومضة براقة في تاريخ البشرية.
جنازة الدكتور أحمد خالد توفيق هي مشهد ثالث يضاف إلى المشهدين السابقين في تقديم أمثلة من أشخاص أحبهم الناس لأنهم أحسوا منهم بعدم التعالي وأحسوا منهم بالعطاء الغير مشروط فأحبوهم، مشهد جنازة الدكتور هو عهد من مستقبل هذه الأمة (وهو الشباب) على حمل أمانة القراءة والعلم وتكملة المسيرة.
كاتب هذه السطور لم يسعده حظه بمعرفة الدكتور معرفة شخصية فلم نتقابل من قبل، وقد ظهرت كتابات وإبداعات الدكتور عندما أصبحت كبيراً نسبياً في السن فقد كنت في المرحلة الجامعية ولكن ما أن بدأت القراءة له حتى تابعته بشغف ليس فقط لنوعية أعماله ولكن لأني أحسست أنه رائد في "أدب العلم" حيث تجد رواية مسلية وكتابة راقية وفي ثناياها معلومات علمية (طبية وتاريخية ... إلخ) تلتهمها دون أن تدري، بل أن أسلوب الكتابة نفسه سهل دون إسفاف وراق دون تعقيدات وساخر دون إساءة، هذه الصفات إذا أضفت لها شخصية الكاتب طيبة القلب عفيفة اللسان متواضعة (وكل ذلك واضح ساطع الوضوح في أحاديثه التليفزيونة القليلة) لأيقنت بوصول كلماته وأفكاره إلى القلب والعقل معاً... ونجد هذا في رواياته ومقالاته على حد سواء.
العلم أوله القراءة وثانيه حب المعرفة وثالثه العمل بتجرد وأعتقد أن الدكتور أحمد خالد توفيق قد أثر في عدة أجيال وجعلهم يقرأون بل ويكتبون ولكي تكتب يجب أن تعرف، وإتخذته هذه الأجيال مثل أعلى فحاولوا تقليده ليس فقط في طريقة كتابته بل في طريقة عمله التي تجعله لا يعمل فقط من أجل "ما يطلبه المستمعون" كمان قال في آخر حديث له في البرنامج الجميل "وصفوا لي الصبر" للكاتب الجميل عمر طاهر ... إنه العمل بتجرد ... إذن أستطيع أن أدعي أن الدكتور وضع أساساً قوياً للشباب لكي يظهر منهم بعد ذلك الكتاب والعلماء والمفكرون.
يقال أن لكل منا نصيب من إسمه وما عمله الدكتور أحمد "خالد" على مدار الأجيال ورزقه الله "التوفيق" فيه وحب أجيال الشباب (أي مستقبل هذا البلد) له ... رحم الله العراب أحمد خالد توفيق.
لا أدري لماذا أريد أن أختم هذا المقال بمطلع قصيدة قالها أمير الشعراء أحمد شوقي في تأبين حافظ إبراهيم شاعر النيل:
قــد كـنتُ أُوثـرُ أَن تقـولَ رِثـائي يـا مُنْصِـفَ المـوْتى مـن الأَحيـاءِ
لكـنْ سـبَقْتَ, وكـلُّ طـولِ سـلامةٍ قـــدرٌ, وكــلٌ مَنِيَّــةٍ بقضــاءِ
الحـقُّ نـادَى فاسْـتجَبْتَ, ولـم تَـزلْ بــالحقِّ تحــفِلُ عنـدَ كـلِّ نِـداءِ
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع