السياسة هى طريقة ابتدعها البشر لإدارة العلاقات بينهم فى مجتمعات تطوى داخلها مصالح متضاربة. تاريخيا، كان «خط التقسيم» الأهم فى كافة المجتمعات، تقريبا هو ذاك الذى يميز بين من يملكون ومن لا يملكون. بين الفقراء والأغنياء. بين أصحاب الأراضى والفلاحين. الأولون هم، بطبيعة الأمور، أقلية. الفقراء، فى كافة المجتمعات القديمة تقريبا، كانوا الأغلبية.
فى أثينا، فى القرن السادس قبل الميلاد، وصلت العلاقة بين الأغنياء والفقراء إلى حالة من الانسداد الكامل. المعضلة الأخطر، كما كان الحال فى مجتمعات كثيرة فى العالم القديم، تمثلت فى الديون. إذا كُنتَ من فقراء أثينا، وفسد محصولك لعامٍ أو اثنين، لن يكون أمامك سوى اللجوء للاقتراض لكى تعيش وتعيش أسرتك. فى النظم الاقتصادية الحالية أيضا ما يُعرف بقوانين الإفلاس. فى أثينا القديمة كان الإفلاس يعنى أن يبيع المرء أسرته وأبناءه ليصيروا عبيدا لدى الأغنياء. هكذا سقطت الكثير من الأسر فى «عبودية الدين». عند نقطة معينة، لم يعد ممكنا استمرار النظام الاجتماعى على هذا النحو. كان يتعين إيجاد حل.
عُهد بهذه المهمة إلى «صولون»، الحكيم الأثينى المعروف. تفتق ذهنه عن تسوية معينة. ألغى عبودية الدين، لكنه لم يُعد توزيع أراضى الأغنياء على الفقراء، أى أنه حافظ على الملكية. لم يُرضِ الحل الأغنياء تماما، ولم يُرض الفقراء على نحو كامل. كان ذلك دليلا- فى نظر «صولون»- على أنه حلٌ جيدٌ. لماذا؟ لأنه ينطوى على تسوية.. تسوية سياسية.
المعضلات الاقتصادية فى العُمق هى قضايا سياسية، ذلك أنها تتعلق فى الأساس بتوزيع الموارد فى المجتمع: من يحصل على ماذا؟. علاج «صولون» للأزمة الاقتصادية المستحكمة بين الفقراء والأغنياء كان سياسيا أيضا، فضلا عن إلغاء عبودية الدين، أعطى «صولون» الفقراء الفرصة- ولأول مرة- للمشاركة فى المجلس العام للمدينة. صار من بينهم أيضا «محلفون» على منصة القضاء، وصار بإمكانهم محاكمة الأغنياء فى قضايا فساد.
لم يُعالج «صولون» قضية الفقر فى ذاتها. الفقراء لم يتغير حالهم بالالتحاق بالمجلس العام للمدينة، أو بالتحكيم فى القضايا. هم ظلوا على حالهم فقراء. ما تغير هو شعورهم بامتلاك نوعٍ من «القوة والسلطة» فى المجتمع الذى يعيشون فيه. كان هذا «حلا سياسيا» لمشكلة اقتصادية.
السياسة، إذن، هى وسيلة معينة للحوار والوصول إلى تسويات داخل المجتمع. هى البديل عن حالة الانسداد الكامل، أو الوصول إلى نقطة الانفجار. يُمكن تشبيهها بالقنوات المفتوحة التى تضخ المياه المحجوزة لتصل إلى مساحات أكبر من الأرض. أو هى قنوات تحوِّل مسار فيضان هادر ومدمر إلى مصارف وترعٍ عِدة، فتكسر حدته وتمتص فورانه.
اليونان القديمة اخترعت السياسة منذ نحو 2500 عام. الطريقة التى مارست بها المدن اليونانية السياسة ظلت شيئا نادرا، لم يتكرر إلا بعد قرون طويلة. ينسى الكثيرون الظرف التاريخى الاستثنائى الذى هيأ لليونان الانخراط فى هذا النشاط العجيب، والذى لا نجد له مثيلا فى الحضارات الأخرى. كانت أثينا تعيش ازدهارا غير مسبوق بعد الانتصار على الفرس فى القرن الخامس قبل الميلاد. توفر العبيد والثروات منح الناس وقت الفراغ لممارسة أنشطة أخرى مثل الذهاب إلى المسرح لمشاهدة الدراما (وهو اختراع آخر ابتدعته اليونان فى ذات التوقيت تقريبا!)، وأيضا المشاركة فى الجدل العام عبر ممارسة السياسة. كانت القراءة والكتابة منتشرة بصورة تفوق أى مجتمع آخر فى هذا الزمن البعيد.
إلى يومنا هذا مازال ازدهار السياسة مقرونا ومرهونا بتوفر هذه الشروط الأولية: حد أدنى من الازدهار، وحد أدنى من المعرفة. من دون توفر هذين الشرطين تستحيل السياسة صراعات صفرية أو مباريات شعبوية تتغذى على تفشى الجهل والفقر لدى السواد الأعظم من أبناء المجتمع.
على أن السياسة ليست ضمانا لتجاوز المعضلات الاجتماعية والاقتصادية. عندما تنزل السياسة من القصور إلى الجمهور، تصير المجتمعات أيضا عُرضة لحالات الصراع والانسداد. يصل الانسداد السياسى، فى حالاته القصوى، إلى الحرب الأهلية، وهى أسوأ ما يمكن أن يحدث لمجتمع فى أى زمان. الحرب الأهلية لا تُدمر مقدرات المجتمع فحسب، وإنما هى تمزق نسيجه ذاته وتقضى على مستقبله، ربما إلى غير رجعة. عبر التاريخ، كانت أغلب الحضارات والمجتمعات تنهار من داخلها، غالبا بسبب حرب أهلية.
السياسة وسيلة ناجعة لإيجاد الحلول والتسويات، وهى أيضا مجال مفتوح لرفع منسوب المنافسة فى المجتمع، ومن ثمّ الاستقطاب. السياسة قد توصل المجتمعات إلى نوع من الانسداد. هذا نعرفه من تاريخ اليونان ذاتها. الديمقراطية الأثينية الشهيرة لم تستمر أكثر من 150 عاما، أى أنها كانت لمحة عابرة فى التاريخ الإنسانى المديد. انهارت هذه الديمقراطية تحت وطأة الاستقطاب الحاد والانسداد السياسى، والتهديدات الخارجية.
لا يصعب على الناظر إلى حال العالم العربى اليوم أن يرصد حالات واضحة للسياسة عندما تستحيل انسدادا وصراعا من دون حل أو أفقٍ للتسوية تسمح للمجتمع بالتقدم للأمام بشكل طبيعى. العراق ولبنان، وهما الأقرب إلى الممارسة الديمقراطية بين الدول العربية، نموذجان صارخان. فى الحالتين استحالت الممارسة السياسية نوعا من الانسداد الكامل. العراق، بعد شهور على الانتخابات، لا يستطيع تكوين حكومة. الانتخابات فى لبنان لا يبدو أنها قادرة على إخراج البلاد من وهدتها الاقتصادية وترديها الاجتماعى المتسارع على نحو مخيف. فى الحالتين، الاستقطاب متفشٍ. منطق الحلول الوسط مفقود. السياسة التى يُفترض أن تقدم قنوات للحوار صارت ساحة مفتوحة للاحتراب والصراع على الموارد وتقسيم «كعكة الوطن».
قد يُجادل البعض بأن السياسة، على كل مثالبها الظاهرة فى تجربة كلٍ من العراق ولبنان، تظل بديلا أفضل وأقل كلفةً من الصراع الأهلى، وقد جربه البلدان كذلك. إنها حجة صحيحة. السياسة، حتى تلك التى يسودها الاستقطاب والطائفية، تظل أخف وطأة من الحرب الأهلية. على أن هناك نوعا من الممارسة السياسية، نراه شائعا فى البلدان العربية للأسف، يقترب بالمجتمعات بشدة من حالة الصراع الأهلية عِوضا من أن يحصنها ويصونها من الوقوع فى براثنها.
ربما لهذه الأسباب كلها اتخذ فلاسفة اليونان مواقف متشككة ورافضة للديمقراطية. لأسباب لا تختلف كثيرا، ما زالت بعض المجتمعات فى عصرنا هذا تخشى الديمقراطية باعتبارها أداة تزيد الصراع فى المجتمع بدلا من تهدئته وتسويته. ضباط يوليو استخدموا حججا شبيهة فى خمسينيات القرن الماضى لتبرير القضاء على الديمقراطية المحدودة التى عاشتها مصر لثلاثة عقود سابقة على ثورة يوليو 1952.
مع ذلك، تظل السياسة ضرورة، حتى وإن لم تتحول إلى ديمقراطية كاملة. السياسة تعنى - فى أبسط تجلياتها- أن يكون ثمة وسيلة ما أمام المواطن للتعبير عن رأيه فى الشأن العام، وأن تكون لديه وسيلة أيضا للحصول على قدر من المعرفة، حتى ولو لم يكن كاملا، بما يجرى على المستوى الوطنى فى بلده. السياسة حاجة إنسانية طبيعية، وليست رفاهية لنخبة من محترفيها. تظل السياسة، بأى مستوى ممكن، هى الوسيلة الوحيدة التى تُمكن المجتمع من مناقشة أزماته قبل أن تصل الأزمة إلى نقطة الانسداد أو الانفجار.