ربما تكون هى العقدة الأخطر والأبرز فى السياسة والاقتصاد الدولى اليوم. الوقود الأحفورى عنوانٌ تتقاطع عنده أزمات وملفات وقضايا كثيرة. هذا ما يجعل منه عقدة مستحكمة، وملفًا يختبر القدرة السياسية والذكاء والحكمة البشرية إلى أقصى الحدود. فأين تكمن العقدة؟
عندما يصحو العالم كل صباح يستهلك 100 مليون برميل من النفط، و100 مليون برميل أخرى من المنتجات النفطية المكررة (من الجازولين والسولار وغيرهما)، هذا بخلاف الغاز والفحم. الوقود الأحفورى هو الدماء التى تتدفق فى شرايين الاقتصاد العالمى لتجعل الماكينات تتحرك، والطائرات تُحلق، وناقلات الشحن العملاقة تُبحر عبر المحيطات حاملة السلع المختلفة. الوقود الأحفورى ليس مجرد سلعة استراتيجية أو معدن مهم. إنه الشىء الذى جعل عالمنا، كما نعرفه اليوم، ممكنًا.
الثورة الصناعية كانت، فى جوهرها، ثورة فى الطاقة. لأول مرة منذ عصر الزراعة، الذى بدأ منذ نحو 10 آلاف عام، يجد البشر مصدرًا آخر للطاقة بخلاف الطاقة العضلية (للبشر أو الحيوان). من دون الوقود الأحفورى لم يكن العالم ليدخل ثورة المواصلات والاتصالات، فى القطارات وسفن البخار، ثم الطائرات النفاثة. من دون الوقود الأحفورى لم يكن العالم ليدخل عصر الكهرباء. الكثيرون ينسون أن السواد الأعظم من محطات الكهرباء اليوم تعمل بواحد من منتجات الوقود الأحفورى. الحقيقة أن 80% من الطاقة التى يستهلكها العالم اليوم مصدرها هذا الوقود.
لا عجب، والحال هذه، أن يقبع هذا المورد الاستراتيجى الاستثنائى فى قلب التفاعلات العالمية، جيوسياسية كانت أو اقتصادية. العنصر المشترك بين الحرب فى أوكرانيا، ومشكلة التغير المناخى، والركود الوشيك فى الاقتصاد العالمى، والسياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط.. هو الوقود الأحفورى دون غيره!
روسيا هى ثانى أكبر مُصدر للنفط الخام فى العالم (بعد السعودية)، وهى أكبر مُصدِّر للغاز، وثانى أكبر مُصدر للمنتجات النفطية المكررة (بعد الولايات المتحدة). وتُمثل عوائد النفط نحو 40% من ميزانيتها الحكومية. الأسبوع الماضى، قرر الاتحاد الأوروبى مقاطعة النفط الروسى المنقول بحرًا. معنى ذلك استغناء أوروبا عن نحو 3.5 مليون برميل كانت تحصل عليها من روسيا يوميًا. النفط سلعة قابلة للاستبدال بسهولة من مصادر مختلفة. سوف تجد أوروبا ما يعوض البترول الذى كانت تحصل عليه من روسيا، وسوف تجد روسيا أسواقًا أخرى لنفطها، وإن كانت ستُضطر إلى تخفيض فى السعر يصل إلى 30%. الغرب يعرف جيدًا أن السبيل لمنع بوتين من تحقيق نصر فى حربه فى أوكرانيا يمر عبر حرمانه من عوائد النفط المرتفعة التى يمول بها اقتصاده، ومن ثمَّ آلته العسكرية.
لكن، وعلى الجانب الآخر، يُراهن بوتين على أن عقوبات الغرب على روسيا سوف ترتد إلى نحره. يُراهن على أن الألم الذى سينال أوروبا والولايات المتحدة جراء الاستغناء عن النفط الروسى، ثم الغاز فى وقت لاحق، سيكون أكبر من التحمل. أول من سيشعر بهذا الألم هو الرئيس الأمريكى «جو بايدن» الذى تنزف شعبيته جراء التضخم المنفلت، والذى تُعد أسعار الطاقة المُحرك الأكبر له. سيُعانى أيضًا الحزب الديمقراطى الذى تنتظره خسارة محتملة فى انتخابات التجديد النصفى المُقبلة بسبب الركود الاقتصادى. عندما يحل فصل الشتاء، سوف يشعر المستهلك الأوروبى بـ«عضة البرد»، ولسعة أسعار الغاز، وسترتفع أسعار النفط أكثر. الحكومات الأوروبية ستواجه موقفًا سياسيًا صعبًا من دون شك.
تلك هى حسابات بوتين. لا نعرف إن كانت صحيحة. الأيام وحدها ستكشف عن ذلك، مع ملاحظة أن الرئيس الروسى ربما- وللمرة الثانية- يُخطئ فى قراءة المواقف الغربية فى زمن الحرب. فما يحدث اليوم هو حرب اقتصادية بالمعنى الدقيق للكلمة. عندما تخوض الحكومة- أى حكومة- حربًا فإنها لا تتوقف عند كل منعطف لتحسب مقدار الألم والمعاناة التى تتحملها. الحرب تنطوى على الألم والخسارة بالضرورة. هذا أمرٌ تعرفه القيادات والشعوب على حدٍ سواء: إما أن تخوض الحرب أو لا تخوضها. إن قررت خوضها فالمعاناة ضريبة حتمية.
غير أن المشكلة الحقيقية تكمن فى أن الولايات المتحدة وأوروبا تسعى إلى تحقيق هدفين فى الوقت نفسه: هزيمة بوتين استراتيجيًا عبر خلق مصادر أخرى للنفط والغاز، والانتصار لأجندة المناخ. هذان هدفان لا يُمكن التوفيق بينهما.
يقول الخبراء إن ارتفاع أسعار النفط له أسباب سابقة على الحرب فى أوكرانيا. أسباب هيكلية تتعلق بالصناعة نفسها، وبتأثير أجندة المناخ عليها. خلال العقد الماضى تغلغلت هذه الأجندة بشدة فى قلب الدوائر السياسية والاقتصادية فى أوروبا والولايات المتحدة. تشكّل شعورًا عامًا مناهضًا للوقود الأحفورى، بسبب ما ينتج عنه من إطلاق غازات الاحتباس الحرارى (وأهمها ثانى أكسيد الكربون). كان من نتيجة ذلك أن أحجمت الشركات الكبرى عن الاستثمار فى المصافى ومعامل التكرير والبريمات والاكتشافات الجديدة.
الاستثمار فى صناعة النفط له طبيعة طويلة الأجل. إنه استثمار تقوم به شركات عملاقة، ويُقدر بمليارات الدولارات، ويستمر لعقود. حالة انعدام اليقين تؤدى إلى إضعافه بشدة. تراجع الاستثمار فى الوقود الأحفورى كان من شأنه تقلص المعروض فى مقابل تسارع الطلب. النتيجة المتوقعة كانت ارتفاعًا فى السعر. لا علاج لهذا الوضع فى الأجل المنظور. إنه وضعٌ يصب، من حيث لا يريد الغرب، فى مصلحة بوتين.
الحل المؤقت فى الأجل القصير هو ما يفعله «بايدن» من محاولة إقناع السعودية برفع سقف الإنتاج لزيادة المعروض فى السوق العالمية، ومن ثمّ تخفيض الأسعار وتجنب الركود العالمى. السعودية دولة لها وضع خاص للغاية فى سوق النفط. أغلب القدرة الإنتاجية الاحتياطية فى العالم (وتُقدر بنحو 4 ملايين برميل) موجودة فى السعودية، وبدرجة أقل فى الإمارات. السعودية هى الدولة الوحيدة فى العالم التى استثمرت فى بناء منشآت نفطية من دون النية لاستخدامها فى الحال. هذا ما يمنحها مكانًا استثنائيًا فى التأثير على السوق والأسعار. فى الوقت الحالى، تبدو كل الحلول الأخرى (بترول فنزويلا أو إيران) أبعد عن التحقق وأكثر تعقيدًا من «الحل السعودى».
غير أن المشكلة الرئيسية، حتى بفرض إقناع السعودية بزيادة المعروض، ستظل قائمة. إن أجندة المناخ، بكل ما ارتبط بها من خطاب نشطاء البيئة والتحذير من الخطر الوجودى للتغير المناخى، تظل مانعًا صلدًا أمام تدفق الاستثمارات إلى صناعة النفط. هذه الأجندة، على أهميتها البالغة للمستقبل البشرى، تحتاج إلى نوعٍ من الترشيد. التحول إلى الطاقة المتجددة لن يحدث غدًا. طاقة الشمس والرياح لا يُمكنها تشغيل الناقلات العملاقة، ولا الطائرات. ربما الحل الواقعى الوحيد يكمن فى الطاقة النووية، التى يرفضها- لغرابة الأمر- الكثير من نشطاء البيئة!
الوقود الأحفورى يجب ألا يوصم بأنه شرٌ وبلاء مستطير. حقيقة الأمر أنه كان نعمة كبيرة للإنسانية، ويُمكن أن يستمر فى القيام بدور مهم فى الاقتصاد العالمى إلى حين يحدث التحول الآمن والتدريجى لمصادر بديلة للطاقة. هذا الاقتصاد، القائم على الوقود الأحفورى، يظل الرافعة التى تُخرج الملايين فى الدول النامية من ربقة الفقر إلى حالة التمكين والازدهار.
الوقود الأحفورى عقدة بالفعل. عقدة تتحدى مدى حكمة البشر فى النظر للأمور والموازنة بين البدائل، والقدرة على النظر العقلانى إلى القضايا من دون إغراق فى الخطابات الزاعقة أو الرومانسية الحالمة.