ربما كان أهم حدث فى مصر فى الأيام الماضية هو مذكرة التفاهم الثلاثية التى وُقعت بين القاهرة وتل أبيب والاتحاد الأوروبى فى 15 يونيو الماضى. الاتفاقُ بالغ الأهمية لمستقبل بلدنا على أكثر من صعيد، أهمها العائد الاقتصادى بطبيعة الحال. غير أنه يؤشر أيضًا لاتجاهات مهمة ستسود المنطقة فى العقد القادم، ويُطلق إشارة البدء لسباق صعب ومعقد على إمدادات الطاقة. مصر لديها من الإمكانية والقدرة ما يؤهلها لخوض هذا السباق
أصل القصة هو الأزمة الكبيرة التى ألمت بأوروبا جراء اعتمادها المُفرط على الغاز الروسى، ما وضعها فى حال انكشافٍ فاضح أمام «بوتين» بعد قراره شن الحرب على أوكرانيا. تمد روسيا أوروبا بنحو 40% من حاجاتها من الغاز الطبيعى. يُعادل هذا نحو 155 مليار متر مكعب سنويًا. تسعى أوروبا، التى استفاقت على هذا الواقع، إلى تقليل اعتمادها على الغاز الروسى بنسبة الثلثين بحلول نهاية هذا العام، توطئة للتخلى عن هذا الغاز نهائيًا بحلول 2022. المشكلة أن أوروبا ليست لديها بدائل كثيرة.
هناك بديل يوفره خط أذربيجان، الذى يمر بجورجيا وتركيا، وصولًا إلى جنوب أوروبا فى إيطاليا. ولكن هذا الخط يُمثل 10 مليارات متر مكعب فقط. هناك بديل آخر فى إيران، التى ربما تحوز ثانى أكبر احتياطى من الغاز الطبيعى فى العالم، ولكنه محفوف بالمشكلات السياسية. الأمر ذاته ينطبق على الغاز فى شمال العراق. ثمة بديل آخر يتمثل فى تركمانستان (لديها رابع أكبر احتياطى من الغاز)، ولكن الحصول على هذا الغاز كان يقتضى بناء خط أنابيب تحت بحر قزوين، ولطالما عارضت روسيا وإيران هذا التوجه.
أمام هذا العجز فى البدائل تُغطى أوروبا حاجاتها العاجلة من الغاز من خلال إمدادات الغاز المُسال من الولايات المتحدة، وأيضًا من قطر. ولكن مازالت هذه الكميات غير كافية لتحقيق «الفطام الأوروبى» الكامل عن الغاز الروسى. من هنا تبرز الأهمية الاستراتيجية لغاز شرق المتوسط. فى هذه المنطقة احتياطيات مؤكدة تُقدر بـ345 تريليون قدم مكعب من الغاز، وهى قادرة على تغطية حاجة أوروبا لعشرين أو خمس وعشرين سنة قادمة.
لم تكن هذه الإمكانية غائبة عن القاهرة وعواصم أخرى فى المنطقة. الهدف الرئيسى من منتدى غاز شرق المتوسط، وهو منظمة إقليمية تضم سبع دول متوسطية مؤسسة وعددًا من الدول المراقبة أُعلن عنها رسميًا فى سبتمبر 2020، هو استغلال إمكانيات الغاز فى منطقة شرق المتوسط فى إطار تعاونى. التكامل شرطٌ جوهرى وحاسم لتحقيق الاستفادة القصوى من إمكانيات الغاز الطبيعى فى المنطقة. القاهرة، التى تم اختيارها مقرًا دائمًا لهذا المنتدى، هى حجر الزاوية فى هذا المشروع الواعد. الطموح هو أن تُصبح مصر مركزًا لتوزيع الطاقة فى منطقة المتوسط، لدى القاهرة إمكانية فى تسييل الغاز الطبيعى فى منشأتى دمياط وإدكو، وهما على مستوى عالمى. هاتان المنشأتان تعملان بأقل من طاقتهما بكثير. إنهما ضحيتان للتقلبات السياسية التى داهمت مصر والمنطقة منذ 2011. خسرت مصر خيرًا كثيرًا بسبب التأخير فى تحقيق الاستفادة القصوى من هذا المشروع المهم، ولكن مازال الوقت أمامنا.
الاتفاق الثلاثى الذى وقعته مصر مع إسرائيل والاتحاد الأوروبى قبل أسبوعين يبنى على اتفاق آخر كانت قد وقعته مصر مع إسرائيل فى 2018 بقيمة 15 مليار دولار. بمقتضى هذه الاتفاقات تضخ إسرائيل الغاز من حقل ليفاياثان عبر خط برى، توطئة لأن تجرى إسالته فى دمياط وإدكو، ثم ينقل مُسالًا فى حاويات إلى أوروبا. الكمية المُستهدفة ليست كبيرة (2 مليار متر مكعب سنويًا)، خاصة إذا ما قارناها بالحاجة الأوروبية الهائلة لتعويض الغاز الروسى (155 مليار متر مكعب سنويًا). على أن الاتفاق يُمثل بداية جيدة ومهمة يُمكن البناء عليها فى المستقبل.
التعاون فى مجال الغاز يخلق فرصًا كثيرة، وهو أيضًا مجال للتنافس. ثمة مشروع «كامن» لتوصيل الغاز الطبيعى من إسرائيل إلى تركيا، ومنه إلى أوروبا. التحسن الجارى، والذى قد يتسارع، فى العلاقات الإسرائيلية- التركية قد يستهدف إحياء هذا المشروع الذى تقف أمامه عدة عقبات سياسية أهمها ترسيم الحدود البحرية بين قبرص وتركيا. فى المقابل، فإن ثمة إمكانية فى المستقبل لمد خط أنابيب تحت المياه لتوصيل الغاز الإسرائيلى إلى مصر لإسالته بكميات أكبر (عندما يدخل حقل ليفاياثان المرحلة الثانية). يقول الخبراء إن إنشاء هذا الخط قد لا يستغرق أكثر من عامين إلى ثلاثة. هو بديل مهم يتعين أن تضع القاهرة عينها عليه فى إطار خطتها للتموضع كمركز لتوزيع الغاز الطبيعى فى المتوسط.
الغاز الطبيعى يطرح قضايا جيوبوليتكية ربما تكون أكثر تعقيدًا من النفط. توصيل الغاز عبر أنابيب، برًا أو تحت البحر، يُعطى ميزة سياسية لا تخفى للمُصدر (كما يظهر اليوم من تفاعلات الحرب الأوكرانية). فضلًا عن ذلك، فإن الارتباط بالحصول على الغاز عبر الأنابيب يعنى ضمنًا عدم إمكانية تغيير المصدر، كما هو الحال مع النفط الذى يسهل استبدال مصدريه بآخرين إن تغيرت الظروف. لذلك فإن الاستثمارات فى الغاز الطبيعى هى استثمارات ضخمة، وطويلة الأجل، وتعتمد إلى حد بعيد على استقرار العلاقات السياسية والبيئة الأمنية بين الدول المصدرة والمستقبلة، بل وفى تلك التى تمر خلالها خطوط الأنابيب.
إن هذه الطبيعة الجيوبوليتكية المركبة للغاز الطبيعى تقتضى بالضرورة تفكيرًا استراتيجيًا طويل الأجل، مع قدرٍ من المخاطرة المحسوبة المستندة إلى قراءة المستقبل. مثلًا: الاعتماد المتزايد على الغاز الطبيعى سوف يُضفى حتمًا أهمية إضافية للقوات البحرية (ولمصر أيضًا مزية مهمة أخرى فى هذا المضمار) التى تتولى مهام تأمين الأصول ومعدات ومنصات الاستخراج، وأيضًا حماية الحاويات الحاملة للغاز المُسال. وربما تبلور العملية الإسرائيلية الأخيرة، التى أسقطت إسرائيل خلالها ثلاث طائرات مسيرة أطلقها حزب الله باتجاه حقل كاريش (المتنازع عليه) فى 2 يوليو الجارى، الأهمية المتزايدة لهذا العنصر فى معادلة الغاز الطبيعى.
لقد صار واضحًا أن الحرب فى أوكرانيا، على ما تسببت فيه من خسائر يُعانى منها الجميع، قد تحمل أيضًا بعض الفرص يتسابق اللاعبون لاقتناصها. وعلى سبيل المثال، تبرز إيطاليا كلاعب يسعى لترسيخ مكانته كموزعٍ مستقبلى للغاز فى أوروبا. ولإيطاليا باعٌ طويل فى استخراج الغاز الطبيعى، ولديها إمكانيات متفردة فى هذا المجال، وهى من قامت بإنشاء أول خط أنابيب تحت البحر من الجزائر فى 1983، ومازال هذا الخط يضخ 21 مليار متر مكعب سنويًا، وهناك خطط لزيادتها إلى 30 مليار فى العام القادم. إيطاليا نموذج مهم للاستثمار طويل الأجل (من خلال شركة «إينى» الشهيرة) فى المتوسط، وهى مؤهلة للقيام بأدوار أكبر فى المستقبل بسبب أزمة الطاقة فى أوروبا. العلاقة بين القاهرة وروما قد تكتسب أهمية استراتيجية أكبر فى المرحلة القادمة لهذا السبب، وغيره.
أخيرًا.. تظل هناك معضلة أخرى تتعلق بالغاز الطبيعى يتعين التفكير فيها على نحو استراتيجى. لقد صار واضحًا أن أوروبا أساءت إدارة سياسات الطاقة خلال العشرين عامًا الماضية، ولم تستثمر بما يكفى فى الغاز الطبيعى أو غيره. السبب هو السياسات البيئية التى تنحو إلى الشعبوية، والتى تنفُر من الوقود الأحفورى (علمًا بأن الغاز الطبيعى أقل صوره إضرارًا بالبيئة). وإلى اليوم، مازال الهدف الأوروبى هو تقليص الاعتماد على صور هذا الوقود، ومنها الغاز الطبيعى، بداية من 2030، وصولًا إلى تحقيق هدف «صفر انبعاثات» بحلول 2050. لا تبدو هذه خيارات واقعية. الأخطر أنها تضر كثيرًا بالاستثمارات طويلة الأجل فى هذا القطاع، وتبث حالة خطيرة من انعدام اليقين. مطلوب حوار واقعى وعقلانى حول مستقبل الطاقة بين ضفتى المتوسط، بعيدًا عن الأهداف الشعبوية التى وضعت أوروبا فى هذا الموقف الصعب اليوم.