بقلم: نديم قطيش
يوم 7 أغسطس (آب) ليس يوماً لإعلان الحقيقة في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير (شباط) 2005. كل ما ستفعله المحكمة حين تنطق بالحكم هو توثيق الحقيقة التي يعرفها اللبنانيون. «حزب الله» قتل رفيق الحريري!
المحكمة لا تحاكم تنظيماً أو فكرة أو عقيدة بل تحاكم أفراداً مسؤولين مباشرة عن جريمة محددة في زمان محدد، وبالاستناد إلى أدلة لا يرقى إليها الشك. غير أن من يحاكمون، الأحياء منهم طبعاً، هم الحزب العميق في «حزب الله». المجموعة التي تختصر طبيعة هذا الحزب الأصلية ودوره ومهمته ووظيفته. فالحزب أولاً وأخيراً تنظيم أمني وعسكري، ينتحل صفة السياسة خدمة للوظيفتين الأمنية والعسكرية. ويحترف العمل الاجتماعي والتعبوي والإعلامي والدولتي وكل ما يخطر على بال بشر، كأنشطة دعم للنشاط الأساسي: الأمن والعسكر.
والحال، من ستحكم عليهم المحكمة في قضية اغتيال الحريري ورفاقه، ومن ستمضي المحكمة في محاكمتهم في القضايا المتصلة، هم التجسيد العملي لجوهر الحزب وماهيته. هم النخاع الشوكي للحزب ليس أقل. ولو أن مصطفى بدر الدين لم يقتل في سوريا، في ظروف لم تتضح حتى الآن، لكان الحكم عليه يوم 7 أغسطس هو حكم، في السياسة، على «حزب الله» كله.
هذه حقيقة يعرفها اللبنانيون. كل اللبنانيين، حتى في بيئة «حزب الله». ولم يعد الأخير يبذل جهداً، منذ زمن طويل، لإقناع أحد برواية مسؤولية إسرائيل عن اغتيال الحريري. بل هو يكاد يقول للبنانيين: «نعم قتلناه... ماذا أنتم فاعلون»؟! مثل هذا التحدي الأرعن قالته بيئة «حزب الله» مراراً وتكراراً على مواقع التواصل الاجتماعي، التي لو كانت حينها مضماراً للسجال كما هي اليوم لقيل هذا الكلام منذ ظهر ذلك اليوم المشؤوم.
لكن ماذا بقي من المحكمة بمعنى الأثر السياسي للحكم المنتظر صدوره عنها؟ قد يجد البعض في طرح هذا السؤال، ولوجاً في منطقة محظورة وتشويشاً على رغبة مثالية، تصل إلى حد السذاجة، في إبقاء المحكمة الخاصة بلبنان وعملها بعيدين عن السياسة.
بيد أن التدقيق هنا واجب. نعم المحكمة الخاصة بلبنان لا تعمل في السياسة ولا تبني قواعد الإجراءات وفق معطيات ومعايير سياسية، وقد أثبتت في أكثر من منعطف أنها أبعد ما تكون عن التسييس، لا سيما حين أمر قاضي الإجراءات التمهيدية في المحكمة من لاهاي «بالإفراج الفوري» عن الضباط الأربعة، الذين أوقفهم القضاء اللبناني في أعقاب الجريمة بالاستناد إلى قانون المحاكمات اللبناني، وهم المدير العام السابق للأمن العام والنائب الحالي جميل السيد والقائد السابق للحرس الجمهوري العميد مصطفى حمدان والمدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي اللواء علي الحاج والمدير السابق لمخابرات الجيش العميد ريمون عازار.
لكن ما يجب ألا يُقفز فوقه هو أن القرار بتشكيل المحكمة والبحث عن الحقيقة وإحقاق العدل هو قرار سياسي أولاً، اتخذته حكومات دول وعبر جسم سياسي هو مجلس الأمن الدولي. العدالة والحقيقة غير مسيسين، إنما القرار بالعدالة هو قرار سياسي، وهذا يعني أن للقرار نتائج سياسية، مهما تعفف البعض أو قرر التلطي خلف القيم المجردة للقانون.
اللافت أن «حزب الله» اعتبر يوم الإفراج عن الضباط الأربعة، قرار المحكمة الدولية «إدانة صريحة للسلطة التي قامت به (التوقيف)، ويؤكد أن منطق الثأر والعصبية والتشفي والأداء الكيدي لا يجلب الحقيقة أو يحقق العدالة». فكيف استند «حزب الله» إلى قرار محكمة متآمرة وصهيونية، بحسب زعمه، وتبنى ما اعتبره إدانة لخصومه وتبرئة لحلفائه، ولا يقبل بها حين تدين من هم من لدنه ودائرته العميقة؟
أعود للسؤال: ماذا بقي من المحكمة بمعنى الأثر السياسي للحكم المنتظر صدوره عنها؟
قد يظن البعض أن الأداء السياسي لخصوم «حزب الله» وعدم استعدادهم للبناء سياسياً على حكم قانوني دولي وعلمي وغير مسيس، يفرغ الحكم من نتائجه السياسية. أو بالحد الأدنى ستلعب النوايا الحسنة والتفكير بالرغبات وترداد زجليات العقلانية والترفع والمسامحة وتقديم مصلحة لبنان على ما عداها دوراً في سكب مياه كثيرة في كأس المحكمة وحكمها.
بيد أن الأكيد أن الأثر السياسي على «حزب الله» لن يكون بسيطاً على المستوى الدولي ولا على المستوى الإقليمي، ولو تجاوز اللبنانيون صعوبات الجلوس مستقبلاً مع «حزب الله»، في حكومة واحدة.
قيمة الحكم، خارج غرف رجع الصدى اللبنانية، أنه يضع حداً فاصلاً بين ما هو افتراض أو رواية أو رأي سياسي أو تحليل، وما هو واقعة قانونية ثابتة ومقبولة على مستوى حكومات العالم ومؤسساته، وهي أن مجموعة رفيعة المستوى من «حزب الله» قتلت رئيس حكومة لبنان وأحدثت زلزالاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً في المنطقة لا في لبنان وحسب. اغتيال هدم، من دون مبالغة، كثيراً من قواعد الاستقرار في الشرق الأوسط. يكفي أن نتخيل عديد الملفات التي كان يمكن أن تأخذ سياقات مختلفة لو كان رفيق الحريري على قيد الحياة!
يمكن للحكم في عالم فانتازيا الاحتمالات أن يكون فرصة لـ«حزب الله» ليخطو خطوة نحو المصالحة مع اللبنانيين، وأن يعبر من التحديد القانوني الضيق جداً لمن هو المتهم والمدان، ليبني جسراً بينه وبين بقية مواطنيه. لكن الحزب لا يبدو راغباً ولا قادراً على خطوة من مثل هذا النوع. قرار بهذا الحجم يستتبع نقاشاً أوسع في مصير السلاح وموقعه في الحياة الوطنية اللبنانية ومستقبل الدولة والنظام السياسي. وينطوي على إقرار أن سلاح المقاومة هو نفسه سلاح الجريمة، وأن لا ضامن للبنانيين ألا يكونوا ضحاياه مرة أخرى!
حكم المحكمة الخاصة في قضية رفيق الحريري يتقاطع مع مناخ دولي مضاد لـ«حزب الله» بما هو امتداد للدور التخريبي لإيران في المنطقة والعالم، وسيغذي القناعة بضرورة فرض مزيد من الضغوط على إيران و«حزب الله». وهذا يعني أن الفرص الضئيلة والضعيفة لمساعدة لبنان ستزداد ضعفاً وندرة، وستسرع الانهيار الذي يأمل البعض أن يقتل المرض والمريض معاً.
في لبنان ثمة من يتصرف على قاعدة أن لبنان أكبر من أن يترك لمثل هذا المصير. المشكلة أنه ليس كذلك. والعالم قادر على احتمال انهيار هذا البلد الصغير، وقادر على تحمل كلفة إعادة استنساخه من دون علة «حزب الله». وحدهم اللبنانيون سيدفعون من لحمهم وأحلامهم ومستقبلهم ثمن المشروع المستحيل لـ«حزب الله».
من سخريات القدر، أنه في مثل هذه الأوقات أكثر من سيفتقد رفيق الحريري، هم الجماعة في «حزب الله».