توقيت القاهرة المحلي 19:39:58 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عودة إلى الجغرافيا

  مصر اليوم -

عودة إلى الجغرافيا

بقلم:نديم قطيش

أعلن فرنسيس فوكوياما نهاية التاريخ، لكنه لم يجرؤ على إعلان نهاية الجغرافيا. بدت فكرته مفعمة بالتفاؤل بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وانتصار النموذج الليبرالي الغربي. بظنه؛ هزمت الفكرة جدار برلين والستار الحديدي. انتصر التاريخ على الجغرافيا، بحسب واحد من أكثر الاستنتاجات تسرعاً في تاريخ العلوم السياسية، والذي، رغم ذلك، لم يزحزح صاحبه عن عرش النجومية في مجاله.
بيد أن عالمنا اليوم لا يمكن أن يكون أبعد من العالم الذي تخيله فوكوياما، وهيمنت صورته على عقد التفاؤل في التسعينات...
نبدو اليوم أقرب إلى القرن التاسع عشر منا إلى القرن الحادي والعشرين على مستوى العلاقات الدولية، وتحديداً من بوابة عودة فكرة مناطق النفوذ إلى السياسة الدولية.
هذا ما تفيدنا به لحظة التصعيد الروسي ضد أوكرانيا، ومحاولات ابتزاز أوروبا من بوابة الغاز الروسي.
تختلف القراءات حول ما يريده فلاديمير بوتين على وجه التحديد. فملف أوكرانيا يطرح على طاولته تناقضات كبيرة.
مزيج الحرب المحدودة والمناوشات وحرب الاستنزاف جعل الصراع مع أوكرانيا شديد التكلفة؛ معنوياً بسبب عدم وضوح أفق الحسم، ومالياً بسبب العقوبات الناتجة عنه. لكن عين بوتين على انتخابات عام 2024، وملف أوكرانيا مادة تعبئة للبوتينية؛ بما هي قوة إحيائية لأمجاد روسيا. في الوقت نفسه يقلقه أن الهوية الروسية؛ التي تُقدَّم كثيراً على طريق استيلادها بوصفها مزيجاً من الإرث القيصري الإمبراطوري والمكون الديني الأرثوذكسي، تتعرض للتحدي من خلال انقسام الكنيسة الأرثوذوكسية بين كنيسة موسكو وكنيسة كييف، فيصير توحيد الكنيسة هدفاً دونه إما احتلال أوكرانيا وإما تكبير الأزمة السياسية والعسكرية معها، وصولاً إلى تدويل يصون مصالح موسكو. معظم هذه الأسباب تلتقي عند فكرة واحدة... إعادة إحياء مناطق النفوذ الروسية. وفق هذا المنطق دخلت روسيا إلى كازخستان ولو تحت غطاء «منظمة معاهدة الأمن الجماعي»، التي تضم إلى روسيا، أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان. ووفق هذا المنطق أيضاً عادت إلى الشرق الأوسط من بوابة الحرب السورية.
الصين من جهتها، تجرب حظوظها في تايوان وهونغ كونغ وجزر بحر الصين الجنوبي والشرقي، وأوسع دائرة ممكنة من الدول في جنوب شرقي آسيا، طمعاً في جعل منطقة غرب المحيط الهادي منطقة نفوذ صيني خالص.
لم يكن مستغرباً، إذن، الإعلان المشترك بين فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جينبينغ، إثر لقائهما على هامش افتتاح «الألعاب الأولمبية الشتوية» في الصين. اختار الرجلان لحظة دولية لإظهار نفسيهما طرفين في جبهة مشتركة ضد «الضغوط الغربية»، وأنهما يعارضان «مزيداً من توسيع (الناتو)، ويدعوان (حلف شمال الأطلسي) إلى التخلي عن مقاربته الآيديولوجية للحرب الباردة»، في الوقت الذي يسعيان فيه تماماً إلى إعادة إحياء سياسات الحرب الباردة؛ بما هي في العمق سياسات مناطق النفوذ والقواعد التي حكمتها منذ عام 1949 وحتى عام 1991.
ما نحن بإزائه ظاهرة تتجاوز الصين وروسيا وشخصيتي الزعيمين الحاكمين فيهما.
ها هي تركيا تسلك درب التراجع عن مشروع سياسة خارجية آيديولوجية توسعية عنوانها العملي ملف «الإخوان» الإسلامي، وعنوانها العقائدي «النيو - عثمانية». وهي تتراجع لصالح فكرة أقل توسعاً وأكثر انضباطاً تحت سقف عملي وواقعي هو «مناطق النفوذ»، في العراق وسوريا وأذربيجان (وأوكرانيا!) عسكرياً، وفي شرق المتوسط، عبر محاولات استرضاء إسرائيل ومصر والإمارات.
أما إيران من جهتها، وبعد ركوب موجة أوهام إمبراطورية تمتد حدودها إلى المتوسط، فتحاول الاستثمار في الأزمة اليمنية لخلق دائرة نفوذ في مداها الحيوي الأول؛ وهو الخليج. صحيح أن الضجيج الإيراني يملأ جنبات المشرق العربي، بحيث يُتصور أنه الهدف الاستراتيجي لإيران، لكن الصراع الفعلي هو الصراع على النفوذ والعلاقات والموارد والمواقع في منطقة الخليج العربي.
يحتل المشرق العربي لدى إيران أهمية عملانية بسبب البعد العقائدي لنظام الجمهورية الذي يضع إزالة إسرائيل بين أهدافه العليا. لكن، وبعد نحو نصف قرن من الثورة وترهل نظامها، تحول هذا الهدف إلى قيمة مجردة ومادة تعبئة وذريعة سياسية. كما أن انهيار سوريا وشبه انهيار لبنان، مقروناً بالنتائج الكارثية في الداخل التي ترتبت على العقوبات الأميركية، واستنزاف إسرائيل هيبة نظام الثورة... غيّر من حسابات إيران وأعاد ترويض أوهامها. ما تواجهه إيران أيقظ في عقل الدولة المحددات الواقعية التي ترسم مصالحها، وأبرزها فكرة مناطق النفوذ. ليس صدفة أننا أمام «صفر اشتباك إيراني» مع إسرائيل، وتصعيد متنامٍ من اليمن والعراق عبر أدوات إيران ضد السعودية والإمارات.
فعلى حد وصف هانز مورغنثاو؛ أحد الآباء المؤسسين للواقعية السياسية في العلاقات الدولية: «الجغرافيا هي المكون الأكثر استقراراً للقوة الوطنية». وإيران تدرك أن الباقي من قوتها هو الاستثمار في الجغرافيا المعزز بتكنولوجيا المسيّرات والصواريخ الباليستية.
لن يكتب النجاح لكل هذه التجارب. ولن يصيب الناجح منها نجاحاً تاماً. لكنها صيرورة جديدة في العلاقات الدولية، عميقة الأثر وشديدة الخطورة.
ومع ذلك نسأل: هل دخلت هذه الصيرورة الجديدة في حسابات العقل السياسي العربي؟ ما حدود مناطق النفوذ لدول الاعتدال، وما أدوات مد هذا النفوذ، ومن القوى التي تديره؟
قد نكون أمام بدايات مهمة. رسمت مصر خطاً أحمر سمته «خط سرت - الجفرة»، يقع على عمق ألف كيلومتر من الحدود الليبية. ورسمت دول الاعتدال العربي خطاً أحمر سياسياً عنوانه إسقاط «الإخوان المسلمين» من معادلة الحكم في تونس والسودان ومصر وجزئياً في ليبيا. كما شكلت العودة العربية إلى العراق، التي ظهرت أبرز تجلياتها في «قمة بغداد» العام الماضي، رافداً مهماً لفكرة ترسيم حدود النفوذ في العراق، بدل سياسة العزوف! وتبدو الأزمة اليمنية أمام توجه مستحدث لرسم مناطق نفوذ جديدة تتجاوز أي خطوط حمر دولية، وضعت سابقاً من ميناء الحُديدة إلى مطار صنعاء.
كل هذا مهم. الأهم هو تنسيق الجهود لانخراط عاقل وهادئ في لحظة التحول الجارية في العلاقات الدولية، على قاعدة عودة فكرة «مناطق النفوذ» إلى السياسة الدولية، لا سيما في لحظة اختلال قواعد الأمان التقليدية في المنطقة نتيجة الانسحاب المتنامي لواشنطن منها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عودة إلى الجغرافيا عودة إلى الجغرافيا



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:42 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة
  مصر اليوم - أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة

GMT 10:08 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد
  مصر اليوم - وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد

GMT 09:50 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل
  مصر اليوم - نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل

GMT 19:23 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

خروج مسلسل ظافر العابدين من موسم رمضان 2025 رسمياً
  مصر اليوم - خروج مسلسل ظافر العابدين من موسم رمضان 2025 رسمياً

GMT 10:53 2024 الثلاثاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

مدبولي يترأس اجتماع المجموعة الوزارية الاقتصادية

GMT 00:06 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

الأمير ويليام يكشف عن أسوأ هدية اشتراها لكيت ميدلتون

GMT 13:01 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

شام الذهبي تعبر عن فخرها بوالدتها ومواقفها الوطنية

GMT 01:05 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

النيابة العامة تُغلق ملف وفاة أحمد رفعت وتوضح أسباب الحادث

GMT 15:39 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

"المركزي المصري" يتيح التحويل اللحظي للمصريين بالخارج

GMT 15:07 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الزمالك يتأهل لربع نهائي دوري مرتبط السلة علي حساب الزهور

GMT 10:59 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

أبرز اتجاهات الديكور التي ستكون رائجة في عام 2025

GMT 22:30 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

5 قواعد لإتيكيت الخطوبة

GMT 14:43 2024 الثلاثاء ,17 أيلول / سبتمبر

أحمد مالك وطه دسوقي يجتمعان في "ولاد الشمس" رمضان 2025
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon