بقلم:نديم قطيش
نقطتا تحول في مسار النزاع الروسي الأوكراني سُجلتا خلال الأسبوعين الماضيين.
1 - الضربات الأوكرانية، على الأرجح، في 9 أغسطس (آب)، التي استهدفت قاعدة ساكي الجوية الروسية في شبه جزيرة القرم التي تحتلها القوات الروسية منذ عام 2014، ثم ما أعقبها من هجمات أدت إلى توقف نصف الطائرات التابعة لسلاح البحرية في أسطول البحر الأسود عن العمل.
2 - مقتل داريا دوغينا، ابنة المنظّر القومي المتطرف البارز، الروسي ألكسندر دوغين، في تفجير عبوة ناسفة في سيارة والدها التي كانت تستقلها منفردة، وسط قناعة بأن المستهدف هو دوغين نفسه أو هو وابنته معاً.
سبقت هاتين اللحظتين سلسلة طويلة من مشهديات المهانة للجيش الروسي كان أبرزها غرق البارجة «موسكفا» أهم سفينة حربية في الأسطول الروسي بالبحر الأسود. وفيما قالت موسكو إن الغرق ناتج عن حريق عرضي، تزعم كييف أن السفينة أصابها صاروخ أوكراني، في إشارة إلى دخول الحرب منحى جديداً على مستوى توازن القوة والفاعلية والتسلح.
من كان يعتقد قبل ستة أشهر أن كييف المهددة بالسقوط خلال أيام من الهجوم الروسي ستتجاوز، بمعونة الولايات المتحدة أولاً ثم بقية الحلفاء في حلف الناتو ثانياً، النجاح في حماية العاصمة إلى حدود المطالبة باسترداد القرم، لا بل ستنجح، لو صحت التقديرات، في نقل بعض من الجانب الأمني للمعركة إلى داخل روسيا نفسها، عبر اغتيال داريا دوغينا.
تغري هذه التطورات البعض لتحديد مواقيت متفائلة لنهاية فلاديمير بوتين، وهي توقعات متفائلة رافقت على الدوام صعود الرجل من مكاتب الـ«كي جي بي» إلى صرح الكرملين، نهاية التسعينات.
بيد أن الواقع ليس بهذه البساطة.
لا يبدو بوتين قادراً على كسب الحرب. الأخطر من ذلك، أنه لا يقدر على قبول الهزيمة، في وجه دولة صغيرة نسبياً كأوكرانيا، يحكمها رئيس آتٍ من عالم الكوميديا. في المقابل لا يبدو الغرب قادراً على هزيمته التامة، من دون المغامرة بدفع الحرب نفسها إلى مستويات حرب نووية، لو اختار بوتين الانتحار الشمشوني، الذي يلوح كاحتمال بين تصريحاته وتحرشاته الميدانية.
من الأمثلة على ذلك اتهام وزارة الدفاع الروسية أوكرانيا بمحاولة تدبير «حادث بسيط» في محطة زابوريجيا الواقعة في جنوب أوكرانيا، وتحتلها القوات الروسية منذ بداية الحرب في فبراير (شباط) الماضي، بغية اتهام موسكو بالتسبب في كارثة نووية!
تزخر هذه التركيبة السياسية والسيكولوجية والميدانية بسيناريوهات انتحارية، تلوح في أفق الأزمة الأوكرانية الروسية. كما تفصح عن التبعات الكارثية للنرجسية الغربية، الأميركية تحديداً، في التعامل مع روسيا واستطراداً الصين وكل المتضررين من النظام الدولي الذي تحاول واشنطن تثبيت دعائمه، ويحاول خصومها تغيير قواعده، كل في مداه الحيوي على الأقل.
في مقابل المهانات الروسية في الميدان، نجح بوتين حتى الآن في تسديد ضربات سياسية قاسية للنظام الدولي وتركيبة تحالفاته، كما استطاع أن يطوّع المعطيات الاقتصادية الدولية لصالح تجريد العقوبات الأميركية من الكثير من فاعليتها.
على جبهة خصوم أميركا، أحسن بوتين وضع حربه في أوكرانيا في تصرف أجندات دول أخرى، لا سيما الصين وإيران، لخلق شبه معسكر دولي، يدفع قدماً بخطاب نهاية النظام العالمي ما قبل الحرب ويشدد على ضرورة الشروع في البحث في ترتيبات أممية جديدة.
في هذا السياق، اكتسب إعلان وزارة الدفاع الصينية أن قوات صينية ستتوجه إلى روسيا للمشاركة في مناورات «فوستوك 2022» مع روسيا ودول أخرى بينها الهند وبيلاروسيا وطاجيكستان، معاني خاصة في ظل تصاعد التوتر بين بكين وواشنطن على خلفية زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان.
أما على جبهة حلفاء أميركا، نجح بوتين في انتزاع اصطفافات حيادية أو شبه حيادية في النزاع، تضعف موقف واشنطن وتربك شبكة تحالفاتها التي تصون عبرها مداميك النظام الدولي. لنتذكر أن الهند، الديمقراطية الأكبر في العالم والشريك الاستراتيجي المهم لواشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، امتنعت عن التصويت على قرارات الأمم المتحدة لإدانة الاجتياح الروسي لأوكرانيا وأهمها، قرار مجلس الأمن في 25 فبراير وقرار الجمعية العامة في 2 مارس (آذار) اللذان تبنيا «إدانة العدوان الروسي على أوكرانيا، والانسحاب الفوري لقواتها».
كما نجح بوتين في بناء ما يكفي من التفاهمات وتقديم ما يكفي من الإغراءات والاستثمار فيما يكفي من الهواجس، لتحييد مواقف بعض الدول الخليجية وإسرائيل.
ولعل النجاح الأهم لبوتين يكمن في نجاحه في «عسكرة إمدادات الطاقة»، بحسب «بلومبرغ»، وإجبار الحكومات الأوروبية على رصد مليارات الدولارات من موازناتها لدعم الفواتير المنزلية للمواطنين أو الدخول المباشر على خط إدارة شركات إنتاج الطاقة، كما حصل مع قرار تأميم شركة كهرباء فرنسا. إلى ذلك فشل الرهان على وقف قدرات روسيا الإنتاجية من النفط والغاز لتجفيف منابع الموارد الروسية لتمويل الحرب. فالناتج الروسي يجد زبائن له في أوروبا نفسها إلى اليوم، ناهيك عن روسيا نفسها والصين وتركيا. الأهم أن موسكو استعادت زمام تسعير نفطها وغازها، وما عادت مضطرة لخصومات هائلة لتصريف الإنتاج، في ظل عطش الأسواق المتزايد.
لقد أدخلت الحرب الروسية على أوكرانيا العالم في مخاض طويل وعسير، لا يترك مجالاً للسيناريوهات المتفائلة، لا تلك التي كانت تتوقع انتصاراً روسياً كاسحاً يفضي إلى نزاع مجمد، ولا تلك التي تتوقع اليوم نهايات قريبة لبوتين.
جزء كبير من الأثمان المرعبة لهذا الواقع كان يمكن تفاديه بالقبول بتسوية مع الكرملين، تبقى على الرغم من مراراتها، الخيار الأكثر عقلانية. لا يصدر مثل هذا الرأي اليوم عن أنصار بوتين بل عن نخبة أميركية تتوزع بين يمين هنري كيسنجر إلى يسار نعوم تشومسكي.
في بدايات الحرب نشرت «نيويورك تايمز» أن «الناتو» وأميركا ليسا بريئين من المسؤولية، بسبب القرار بتوسعة حلف الناتو ليضم دولاً في أوروبا الشرقية على حدود روسيا. وتنقل الصحيفة عن السياسي الأميركي جورج كينان، مهندس سياسة احتواء أميركا الناجح للاتحاد السوفياتي، وأبرز خبير أميركي في شؤون روسيا، رأيه حول التوسعة. يقول كينان:
«أعتقد أنها بداية حرب باردة جديدة. أعتقد أن الروس سوف يتصرفون تدريجياً بشكل عكسي وسيؤثر ذلك على سياساتهم. أعتقد أنه خطأ مأساوي. لم يكن هناك سبب لهذا على الإطلاق. لم يكن أحد يهدد أي شخص آخر. من شأن هذا التوسع أن يجعل الآباء المؤسسين لهذا البلد ينقلبون في قبورهم». باسم هؤلاء الآباء، يعيد بوتين كتابة التاريخ والجغرافيا من خلال الحرب في أوكرانيا.
المفارقة أن واشنطن التي كان يمكنها قيادة خيار التسوية مع روسيا، أسهمت في تسعير الحرب وتعريض السلم الدولي لكل ما يتعرض له اليوم. هي نفسها التي لجأت لخيار التسوية مع إيران، على الرغم مما دفعت إليه التسوية الماضية عام 2015 من تسعير للنزاعات والتوتر في الشرق الأوسط.
ألم تكن التسوية مع بوتين أكثر جدوى من التسوية مع إيران؟