توقيت القاهرة المحلي 10:04:56 آخر تحديث
  مصر اليوم -

سؤال صائب

  مصر اليوم -

سؤال صائب

بقلم: نديم قطيش

نقل صائب عريقات، البالغ من العمر 65 عاماً، من الضفة الغربية إلى مركز «هداسا» الطبي الإسرائيلي للعلاج بعد تدهور صحته، إثر إصابته بفيروس «كورونا» المسبب لمرض «كوفيد - 19».
يصيبك الخبر أولاً بالمعنى الشخصي، كونك عرفت صائب، المفاوض، والمرجع في تحليل الخبر الفلسطيني، والنافذة على عمق الموقف خارج نصوص البيانات المعدة سلفاً للنشر، والصديق الخفيف الذي تلتقيه في العواصم والمدن، صدفةً أو ترتيباً، مدافعاً متقداً عن قضيته، التي ما عرف له شغفاً سواها.
ثم يصيبك الخبر بالمعنى العام... بكثافته الرمزية ودلالاته... كبير المفاوضين الفلسطينيين، ورئيس دائرة المفاوضات، وأمين سر منظمة التحرير الفلسطينية، ومستشار الزعيم الراحل ياسر عرفات والرئيس أبو مازن، لا يجد في محنته الصحية المعقدة، سوى مركز إسرائيلي وفريق طبي إسرائيلي لعلاجه ومحاولة إنقاذ حياته.
كيف يمكن لهذا الجزء من الخبر عن صائب ألا يتجاوز الرجل، لأن يصير كل الحكاية؟
أمام مركز «هداسا» تظاهرت مجموعات يمينية إسرائيلية متشددة اعتراضاً على تقديم الرعاية الطبية لرجل «عندما ينهض ويخرج من هنا سيعود ويقتل المزيد منا»، كما كُتب على إحدى اللافتات. قول كهذا لا ينم إلا عن أعطال أخلاقية قبل أن تكون سياسية في النص السياسي اليميني المتشدد. فإن كانت الحياة غير ممكنة مع صائب ومع مثله، أتراها تحتمل مع أي مخلوق فلسطيني بالمطلق؟ وماذا يبقى حينذاك من محتوى موضوعي للسلام وحل الدولتين وأفق لتسوية النزاع بما يليق بالبشر؟
على الجهة الأخرى، أدخل الخبر في بازار الاشتباك بين السلطة الفلسطينية وجمهور المدافعين عن التطبيع الخليجي الإسرائيلي. صار مطلوباً من عريقات أن يستشهد على مذبح رفض التطبيع عبر رفض الرعاية الطبية الإسرائيلية كتتمة لمواقفه الرافضة لاتفاق السلام الإماراتي البحريني الإسرائيلي. هنا يتفوق العطل السياسي على الأخلاقي عند بعض سقط المتاع الإعلامي و«السوشيال ميديوي»، أمام نسيان أو تناسي أن الفلسطينيين هم في واقع تطبيع تام مع إسرائيل.
ما يعنيني في الخبر يتجاوز البازارين.
أيعقل ألا يكون من بين منجزات المشروع الوطني الفلسطيني مستشفى يليق بمعالجة الفلسطينيين؟ أيعقل أنه وخلال ربع قرن على ولادة الكيانية الفلسطينية على أرض فلسطين لم ينهض صرح طبي يليق بالنخب الفلسطينية العاملة في كل مستشفيات الأرض من الخليج إلى أميركا وكندا وأستراليا مروراً بفرنسا وألمانيا واليونان، وفي كل حقول التخصص المعقدة؟
يروي لي كاتب سياسي ممن كانت لهم صلات خاصة بياسر عرفات، أن «أبو عمار» كان يحتفظ في جيب سترته العسكرية، بشيئين:
عملة معدنية فلسطينية قديمة وورقة يحرص دوماً على تحديث بياناتها، فيها مجموع الأطباء والمهندسين الفلسطينيين في «الشتات»..
في كل الأرض إلا في فلسطين!!
وما النصر إلا مستشفى، ومدرسة وجامعة ومطار وبنية تحتية..
«سؤال صائب» أبعد من موضوع النجاح الإداري للدولة. هو سؤال يقع في صلب سؤال الأرض نفسها والكيان والوطن. هو سؤال في تعريف «القضية». هل على الفلسطينيين أن يضيعوا المزيد من الأجيال طلباً لمزيد من الأرض، أم أن ينتجوا تجربة نجاح على ما تيسر لهم من أرضٍ؟ هل الأرض هي القضية أم ما عليها؟
بحسب خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، تصل مساحة الدولة الفلسطينية المكونة من 70 في المائة من الضفة الغربية، مضافاً إليها تبادل أراضٍ بواقع 15 في المائة من مساحة الضفة زائد قطاع غزة، إلى نحو 5170 كلم مربعاً. ما يعني أنه يمكن أن تقوم على أرض فلسطين 7 سنغافورات (مساحة سنغافورة 726 كلم مربعاً)، أو 5 هونغ كونغات (مساحة هونغ كونغ 1106 كلم مربعة). بيد أن واقع الأمر أن الدخل القومي لكل من سنغافورة وهونغ كونغ هو 372 مليار دولار، و366 مليار دولار، على التوالي، في مقابل 15 مليار دولار للدخل القومي الفلسطيني، حسب بيانات عام 2019.
يمكن للمرء، وعلى سبيل الإنصاف، أن يستفيض في عرض أسباب التعثر الفلسطينية وغير الفلسطينية. لكن تبقى المسؤولية الأساس فلسطينية، وتتصل بعقل القيادة وعقل المشروع الوطني الفلسطيني، وسيادة الآيديولوجيا على ما عداها.
أخذ الفلسطينيون قطاع غزة بكامله، وبدل تحويله إلى منطقة اقتصادية/ صناعية حرة بمساحة 365 كلم مربعاً، أي ما يوازي حوالي 8 مرات مساحة جبل علي في دبي، صار معسكراً بائساً للإسلام السياسي، وحلبة للحرب الأهلية الفلسطينية. هذا مصير يُسأل عنه الفلسطينيون بمقدار أعلى مما تُسأل عنه إسرائيل وإيران ومنظومة الإسلام السياسي.
يحيلني هذا إلى المعنى العميق لمشروع الراحل رفيق الحريري، الذي اتهم بالرهان على السلام بالمعنى الانتهازي الضيق للكلمة من دون فهم رهانه الحقيقي. كان الحريري يقول مواربة، أضعنا نصف قرن في قتال إسرائيل وتدمير أنفسنا. لنصرف الخمسين سنة المقبلة في بناء دول واقتصادات وإمكانات قطاعية طبية وتعليمية وإنتاجية ومصرفية، ونواجه بعدها من موقع القوة لا من موقع الضعف والخطابات..
لنتخيل للحظة أن الإمارات العربية المتحدة قررت رهن مقدرات البلاد وأمن الخليج لتحرير الجزر الثلاث التي تحتلها إيران، بدل النهوض بالدولة، ببشرها وبحجرها..
لا داعي لنتخيل. راقبوا مآلات لبنان اليوم الذي اقترن انتقاله إلى محور المقاومة مع انهيار مستشفياته التي شكلت علامة فارقة في موقعه الخدمي في الشرق الأوسط. لبنان الضعيف نهض ببنية تحتية وخدماتية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر للشرق الأوسط، في حين أن لبنان القوي بمقاومته، ينزف كادره الطبي على نحو غير مسبوق حتى في ذروة الحرب الأهلية. لقد فقد مستشفى الجامعة الأميركية 10 في المائة من نخبته، في حين تترنح مستشفيات أقل قدرة على حافة الإفلاس التام.
أعود إلى صائب..
لطالما كان الحديث مع صائب عريقات يحمل شيئاً مختلفاً. تعرف، حين تتسنى لك فرصة الجلوس معه أو مكالمته هاتفياً، أنه لن يفرغ عليك معلبات الأجوبة الفلسطينية الجاهزة. أخاله يحتفظ لنفسه بصندوق مفاجآت يجمع فيه أجوبة وأفكاراً خارج المألوف، ويظل ينتظر اللحظة المؤاتية لرميها على الطاولة.
مزيج خاص من براغماتية أبو عمار ومبدئية الفلسطيني الأخير، ودائماً بما قل من الادعاء.
يرقد الآن صائب، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، بين الحياة والموت، بعد أن نال منه فيروس كورونا المسبب لمرض «كوفيد - 19»، مقاتلاً بما بقي له من رئة واحدة زُرعت في صدره عام 2017، وأدخلته في تجربة «وفاة» قصيرة حين توقف قلبه عن الخفقان لأكثر من 3 دقائق خلال العملية..
هي جولة جديدة مع الموت، أرجو النصر فيها لصائب، ولأسرته..
سيذكره الناس بكوفيته التي كادت تعطل افتتاح مؤتمر مدريد حين أصر على وضعها على كتفيه واعترض الإسرائيليون، ثم كان له ما أراد.. بيد أن الأوطان لا تبنى على المجاز فقط، ولا تحيا بقوة الرمز وحدها.
سؤال صائب هو هنا. سؤال في حدود المجاز وامتحان الواقع..
الفلسطيني الذي يرقد معالجاً في سرير إسرائيلي بعد ربع قرن من قيام الكيان الفلسطيني!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سؤال صائب سؤال صائب



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon