بقلم - نديم قطيش
بقليل من الاستعجال يمكن القول إن العام 2023 قد أتم الصفة التي ستلازمه بناءً على طبيعة التطورات السياسية الحاصلة.
إنه عام عودة الدواخل، أي عودة الأوضاع الداخلية لتكون هي المؤثر الأول في صناعة السياستين الداخلية والخارجية للدول، ولا سيما الشرق الأوسط، بعد طفرة صراعات الآيديولوجيا خلال عموم العقد الفائت.
التحدي الأبرز اليوم في إسرائيل ليس صواريخ «حماس» و«حزب الله» أو النووي الإيراني. ما يهدد إسرائيل بأن تنتهي «بسبع دقائق ونصف دقيقة» هو الصراع الداخلي الاجتماعي والسياسي والثقافي والقيمي، الذي دفع برئيس الدولة لأن يحذر من «حرب أهلية»!
التحدي الأبرز لإيران، الذي ساهم في تشجيعها على مسار التسويات والمصالحات، هو التحدي الداخلي الذي يرتبط بشرعية النظام في الداخل وبتردي قدرته على الاستجابة لمتطلبات وحاجات المجتمع.
دولة كبيرة كالصين، عاد فيها الداخل ليكون مصدر صناعة السياسة، لا الصراع العقائدي الصرف مع أميركا. تحديات الصين ترتبط بتداعيات سياسات الدولة تجاه جائحة «كورونا»، والفقاعة العقارية، وتدني نسب النمو الذي من دونه لا تستطيع بكين أن تستمر في الاستجابة لتوقعات الطبقة الوسطى الصينية الأضخم في العالم، التي تعد العلامة الأبرز من علامات المعجزة الصينية.
ولو توسعنا قليلاً لوجدنا أن أميركا لا تشذ عن القاعدة. الداخل الأميركي بصراعاته الهوياتية والآيديولوجية والمصلحية بات هو المقرر في صناعة السياسة الخارجية الأميركية. لطالما قيل في أميركا «إن كل سياسة هي سياسة محلية في نهاية المطاف»، بيد أن وضوح هذا العنوان لم يكن بمثل وضوحه اليوم.
عودة الدواخل لحظة مهمة في سياق تطور المعاني الفلسفية للسياسة وصراع العقائد.
الآيديولوجيات السياسية، كإطار لتنظيم وفهم دور وهيكل الحكومة، لها تأثير عميق على الطريقة التي نتصور بها العالم ونتعامل معه، ومن خلالها نفهم بيئتنا، مكانياً وزمانياً. فالتفاعل بين الآيديولوجيات السياسية وبين مفهومي المكان والزمان هو مدخل رئيسي لفهم كيفية تشكل الفكر والممارسة السياسيين، لجهة دور الجغرافيا السياسية، أو لجهة السياق التاريخي، أو لجهة تصور المستقبل.
يلعب مفهوم المكان دوراً حاسماً في الآيديولوجيات السياسية، أياً يكن نوعها، لأنه يؤثر بشكل مباشر على طريقة توزيع السلطة السياسية وممارستها وتعريف مصادر الشرعية ومعايير النجاح والفشل. يرتبط البعد المكاني ارتباطاً وثيقاً بالجغرافيا السياسية، سواء أكان ذلك يعني الحدود المادية أو الموارد الطبيعية أو توزيع السكان. ولا ينفك البعد المكاني عن البعد الزماني الذي يستدعي التاريخ، كما هو حال معظم الآيديولوجيات القومية أو الهوياتية، التي تولي أهمية استثنائية للأرض والثقافة واللغة والعرق.
بمزيج من كل هذه المعاني دخل بوتين إلى أوكرانيا «لتصحيح» أخطاء التاريخ و«لإنقاذ» المتحدثين بالروسية. وفي إسرائيل تتناسل المعارك الدائرة في الضفة الغربية والقدس من فهم توراتي لتعريف المكان والزمان المرتبطين بما هو «الوطن اليهودي». وفي ممارسات إيران ما يوحي بمعاندة الجغرافيا من خلال إصرار الخطاب الإيراني على أن الجمهورية الإسلامية باتت «على شواطئ المتوسط»، كما في ممارستها أيضاً ما يوحي برغبة «بتصحيح» التاريخ أيضاً، وفق تصور خاص يستعيد من التاريخ معارك محددة ولحظات تنازع سياسي داخل صراعات السلطة في الإسلام.
تتسع رقعة المكان أو تضيق بحسب طبيعة كل آيديولوجيا، فيمكن لها أن تضيق إلى حدود «الوطن اليهودي» أو «الوطن الكردي»، على سبيل المثال لا الحصر، ويمكن لها أن تتسع لتشمل كل الأرض ومن عليها، كما هو تصور الآيديولوجيا الليبرالية التي صدح باسمها في يوم من الأيام فرانسيس فوكوياما معلناً نهاية التاريخ، ونهاية الجغرافيا ضمناً تحت عنوان القرية الكونية الواحدة.
بداهة، تختلف الآيديولوجيات بعضها عن بعض باختلاف قدرتها على التكيف والتطور بمرور الوقت، ومدى قابليتها لأن تستجيب للظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتغيرة، وما تتيحه أو لا تتيحه ديناميكية الفكر والممارسة السياسيين.
يأخذني هذا إلى التعبيرات المكانية والزمانية المختلفة للمتصارعين في الشرق الأوسط. العنوان الزمني في السعودية هو «رؤية 2030» والعنوان الجغرافي هو الوطن السعودي بحدوده المعترف بها دولياً. ستجد في الخليج رؤى مماثلة، كما هي رؤية الإمارات في الخمسين سنة المقبلة، بعد أن أتمت الدولة عام 2021 عامها الخمسين. وأما المكان فهو الدولة نفسها. نقع هنا على زمن ومكان محددين يمكن تصورهما ضمن حدود الإدراك البشري.
في حين أننا لو نظرنا إلى الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي فسنجد أننا أمام زمن يتراوح بين تاريخ سحيق، ومستقبل هو ما بعد المستقبل وما بعد الحياة. فالصحويون السنة يتوقون إلى ما يسمى العصر الذهبي للإسلام أيام الخلافة الراشدة، باحثين عن خليفة الآن هنا لإعادة إنتاجه، خارج أطر الدولة والحدود والشرعية السياسية أو الهوية الوطنية. والصحويون الشيعة يرجعون إلى لحظات يظنون أنها تكتنز كل معاني الحق السياسي، كما في إحياء عاشوراء كلحظة سياسية، ويجتهدون في محاولة تعديل نتائج هذ الحدث التاريخي، بنتائج معارك تخاض الآن هنا، سواء أكان في العراق أم في سوريا أم في اليمن. وأما المستقبل في الفكرين فهو الآخرة بعينها وليس أقل، حيث النعيم الأبدي والجنان الموعودة نتيجة تحقيق الوعد الإلهي.
في حين أن المستقبل منظوراً إليه من مقاعد الدول غير الآيديولوجية، كالسعودية والإمارات، فهو مستقبل مادي ملموس بمكانه وزمانه، ويرتبط بالتخطيط لمستقبل قابل للتوقع وأكثر تركيزاً على تعزيز التنمية الاقتصادية والتماسك الاجتماعي والتحديث والاستدامة البيئية، وغالباً ما يكون مدفوعاً باحتياجات وتطلعات شعب محدد ضمن حدود الهوية الوطنية للدولة.
ما ينتج عن هذا التفاعل بين الفكر السياسي ومعادلتي الزمان والمكان، يتصل مباشرة بمستقبل البشر. فاليوتوبيا التي تروج لها الآيديولوجيا، ولا سيما الآيديولوجيات الجامدة، تتمحور حول تحقيق مجتمع مثالي قائم على مبادئ دينية أو ثقافية أو قومية أو سياسية أو طبقية. ولذلك تمتلك اليوتوبيا القدرة على تعزيز ثقافة التضحية الفردية والاستشهاد بغية تحقيق الصالح العام، لأنها تقدم أولوية الأهداف الجماعية على الرفاهية الفردية.
على العكس من ذلك، تعطي دول أخرى في المنطقة كالسعودية والإمارات الأولوية لرفاهية الفرد وتلبية الاحتياجات والتطلعات الحالية، المرتبطة بمستويات معيشية عالية، والتعليم، والرعاية الصحية، والفرص الاقتصادية لمواطنيها.
وبالتالي، إن أهم ما يمكن أن ينتج عن المسارات السياسية الناشئة في المنطقة هو هذا التعديل في النظر إلى فكرتي المكان والزمان كمعطيين سياسيين، الذي أشرت إليه في بداية المقال بأن عنوانه الأبرز هو عودة الدواخل لتلعب الدور الأبرز في صناعة السياسة وترويض الآيديولوجيات، بعد أن امتحنت الظروف الموضوعية حدود اليوتوبيا في أن تكون مسكناً للآلام والمآسي القائمة الآن وهنا.