بقلم: نديم قطيش
ما حصل في شوارع بيروت ليلة السبت - الأحد، من إحياء منظم لخطوط التماس الأهلي، لا سيما بين السنة والشيعة، هو دليل على الضعف المتنامي للمسؤول عن إنتاج هذا المشهد، لا على قوته.
قبل المظاهرة التي رفع منظموها شعار نزع سلاح «حزب الله»، بدأت تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات عن تذخير البنادق، وتهيئة السلاح والبزات العسكرية، والنفوس المنتفخة بمجد الانتصارات الوهمية، في مواجهة «الخونة» الذين يريدون نزع «سلاح المقاومة حامي لبنان». كل ذلك كان يحصل على وقع هدير الطائرات الإسرائيلية التي كانت تحلق آمنة سالمة، وعلى علو شديد الانخفاض، في سماء لبنان، لتنفيذ موجة قصف جديدة في سوريا تستهدف مواقع لبقايا جيش الأسد، ومخازن لـ«حزب الله» و«الحرس الثوري» الإيراني.
ليلة السبت - الأحد، هي تلك اللحظة التي يلتقي فيها عند «حزب الله» فائض العجز مع فائض الانتفاخ، مقروناً بإحساس عميق بالقلق على عموم المشروع من لبنان إلى إيران مروراً بسوريا والعراق. لم يجد الحزب ما يرد به على اللبنانيين إلا وضع خيار الحرب الأهلية في مقابل الرغبة في نزع السلاح. أما سبيل النفاذ إلى تلك المعادلة فاستعادة جنونية لأحط أنواع خطاب الهوية عبر الإساءة إلى السيدة عائشة، زوجة نبي الإسلام محمد، بغية رفع مستوى الاستفزاز إلى درجات لا تقود إلا إلى ما قادت إليه، وربما أبعد.
لا أزعم أن «حزب الله» يريد حرباً أهلية؛ لكنه لا يمانع المشي على حافتها، إن كان هذا المشي يحقق له ثلاثة أهداف:
1- يعيد تجديد الحُرم على أي نقاش وطني للأزمة اللبنانية السياسية والاقتصادية والمالية والنقدية، يبدأ من ترسيم حدود مسؤولية السلاح، وخيارات «حزب الله» عما يواجهه لبنان.
2- يخلق مشهدية مقززة من الاشتباك الأهلي بين غوغاء من كل الأطراف، تنزع عن الانتفاضة اللبنانية البادئة في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 بهاء مشهدياتها الأولى، كحراك مدني حقيقي عميق الجذور، والرغبة في بناء وطن يشبه أجمل ما في اللبنانيين وفي صورتهم.
3- يعبر من ليل السبت - الأحد إلى واقع سياسي جديد، ينتج ما يسميه «حزب الله»، وبإصرار من حركة أمل، حكومة وحدة وطنية، تكون بديلاً عن حكومة حسان دياب الراهنة.
النقطة الأخيرة هي بيت القصيد. ومن يتابع تصريحات المسؤولين اللبنانيين وزحمة لقاءاتهم، يدرك أن «حزب الله» عاكف على جر الجميع إلى معاودة الجلوس معه في «حكومة وحدة وطنية»، وهو التعبير النبيل لمهمة غير نبيلة، هي في الواقع تحسين ورقة التوت التي يغطي «حزب الله» بها عورته كميليشيا إيرانية تهيمن على دولة، وتتمتع بأعلى درجات إنكار هذا الواقع بإزاء المجتمعين العربي والدولي.
يريد «حزب الله» غطاءً له ولدوره، أفضل من الغطاء الرقيق الذي يؤمِّنه له حسان دياب. ويريد هامشاً لإنكار أنه يحكم لبنان من بابه إلى محرابه، لا تؤِّمنه له حكومة وصل رئيسها بأصواته وأصوات حلفائه، وهم وحدهم من منحوها الثقة البرلمانية. فأكثر ما يخيف «حزب الله» هو أن يحكم لبنان في وضح النهار لا في عتمة الكذبة اللبنانية التي اسمها حكومة وحدة وطنية، وهي لا تملك في واقع الأمر من مواصفات الوحدة ولا من مواصفات الوطنية ما يستحق التقدير.
إن البديل الموضوعي عن المسارعة إلى الجلوس مع «حزب الله» في حكومة من هذا النوع، هو الانسحاب الكامل من أي شراكة كانت معه، ودفعه إلى أن يحكم وحيداً ويواجه وحيداً ويعالج وحيداً ما كان هو مسؤولاً مباشراً عن الوصول إليه، وعدم تكرار الوقوع في الفخ الساذج الذي يقوم على الاعتقاد بأن إعادة أي من التجارب السابقة قد تؤدي بالفعل إلى حماية أي شيء في لبنان. إن هذا الاعتقاد ما عاد في الواقع يتسم بأي صفة من صفات المسؤولية الوطنية؛ بل هو انتحال صفة المسؤولية الوطنية بهدف العودة الرخيصة إلى الحكم، وتقاسم السلطة مع «حزب الله»، والرضا بما يقسمه الحزب من فتات لهذا أو ذاك.
البديل الموضوعي هو وضع «حزب الله» كاملاً وعارياً في مواجهة المجتمعين العربي والدولي، وإجباره، عبر حكومته ورئيسه وسلاحه، على الاحتكاك المباشر بنتائج واقعه كميليشيا إقليمية تحكم دولة، واختبار تبعات ذلك على مستقبل اللبنانيين، والشيعة منهم قبل غيرهم، بدل السماح له بالتمتع بأفضل ما في العالمين، عالم الميليشيا الإقليمية، وعالم الشريك الوطني، في حياة سياسية سليمة في دولة سليمة.
كما يجدر ألا تكتفي القوى التي يعنيها لبنان بالطلاق المؤسساتي الهادئ مع «حزب الله»؛ بل أن تشكل رأس حربة لمزيد من العقوبات على لبنان، ومزيد من محاصرته بصفته دولة محتلة بالكامل من ميليشيا إقليمية، من دون وجل أو خجل.
كيف يدعو مواطن لمعاقبة بلاده بهذا الشكل؟
الجواب في السيرة السياسية لواحد من أعظم مناضلي القرن العشرين، وهو نيلسون مانديلا الذي رفض أن يقبل بفتات ما يعرضه عليه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. تحول مانديلا بصفته زعيم «المؤتمر الوطني الأفريقي» إلى واحد من أعلى الأصوات في العالم الداعية لتعزيز العقوبات على النظام في جنوب أفريقيا، حتى بعد إطلاق سراحه، رافضاً الانتهازية السياسية عند بعض الحكومات الغربية؛ لا سيما الحكومة البريطانية بقيادة مارغريت ثاتشر التي كانت تتهيأ لمكافأة النظام في جنوب أفريقيا على خطوات رمزية قام بها، من دون تعديل جذري في نظام الفصل العنصري.
إن نظير ما رفضه مانديلا هو رفض تشكيل حكومة وحدة وطنية في لبنان، يدفع «حزب الله» باتجاهها، ولا وظيفة لها إلا تلميع صورة الحزب، وتأمين رجوعه إلى دائرته المفضلة، وهي أن يتحكم بلبنان من دون أن يحكمه.
للأسف، لا مانديلا في لبنان؛ بل قوى سلطة، تتوسل خطاب المسؤولية الوطنية للنفاذ منه إلى لعبة تقاسم سلطة وحماية نفوذ. من الجيد ألا تقع الدول العربية والغربية الفاعلة في هذا الفخ، مع من قد يقع فيه خلال الأسابيع القليلة المقبلة، ما بعد حكومة حسان دياب. ومن الجيد أن تكون هذه الحكومات هي مانديلا لبنان، لإسقاط نظير نظام الفصل العنصري في هذا الوطن الصغير.