بقلم: نديم قطيش
ما عاد مسموحاً، بحجة الخوف على «السمعة الوطنية»، ترك «حزب الله» وحيداً يكتب تاريخ تجربة حرب يوليو (تموز) 2006 مع إسرائيل والحسم بنتائجها واستخلاص معانيها. ثمة مسؤولية كبيرة على كل من كان شاهداً على فصول هذه الحرب المدمرة للبنان واقتصاده وتماسك سلامته المجتمعية، أن يدلي بدلوه. ليس المطلوب ضرب سردية «حزب الله» الانتصارية الغيبية وحسب، بل وضع حد لهذا الاستثمار المَرضي فيها، من قِبل عقلية لا تريد أن تتعامل مع هذ التاريخ المؤلم إلا من موقع مَن وحده يمسك ناصية الوطنية ويوزع أسهمها على اللبنانيين ويحرم مَن يريد أن يَحرم منها.
هذا ملحٌّ قبل أن ندخل في النقاش الذي بات أكثر من ضروري لحقيقة نتائج حرب الشؤم التي قاد «حزب الله» اللبنانيين إليها بلا رأي لهم فيها وبلا قدرة عندهم على المحاسبة على نتائجها. وقبل أن ندخل في تعريف الانتصار في بلد يتنقل منذ تلك الحرب من انهيار إلى آخر ومن تهديدات تَلوح في آفاقه الاقتصادية والاجتماعية والمالية إلى تهديد أكثر رعباً.
هل مطلوب أن يجلس اللبنانيون كل عام أمام شاشات التلفزة يستمعون إلى حسن نصر الله يهذر عن النصر والمعادلات التاريخية وإسرائيل الأوهى من بيت العنكبوت من دون أن ننظر حولنا لنرى أين أصبحنا وأصبح «الكيان المأزوم والمرتبك والمذعور والمردوع»؟!
لنبدأ ببعض الأساسيات. كشف مسح أجراه معهد إسرائيل للديمقراطية أن القضايا الاقتصادية والاجتماعية تهم الإسرائيليين أكثر من القضايا الأمنية، التي منها تهديدات نصر الله، وآخرها أن الحرب لو استمرت عام 2006 لكان وضع إسرائيل كارثياً…
لماذا لم تستمر الحرب إذاً؟ أتحفنا سماحته بأنه تناقش مع الإخوة في الحزب وتوصلوا إلى قناعة أن ما دفعه اللبنانيون يكفي ومن حقهم ألا يدفعوا أكثر في الحرب حتى ولو كان الهدف هو إيصال إسرائيل إلى مصير كارثي…
سلطنوا أيها اللبنانيون والشرفاء في العالم!
وإسرائيل المهجوسة بالاقتصاد ليست مهددة بانهيار قطاعها المصرفي ولا بترنح عملتها ولا يلوح في أفق مواطنيها شبح الإفلاس الذي يسرح ويمرح فوق لبنان كطيران العدو الغاشم...
إسرائيل هذه شهدت زيادة في الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من عام 2019 بنسبة 5.2% فيما لا تتجاوز نسبة البطالة فيها 3.6%، أي عُشر مثيلتها في لبنان، في أقل المعطيات تشاؤماً، ما يعني أنه مقابل كل إسرائيلي عاطل عن العمل هناك عشرة لبنانيين على الأقل... وليس بوسع «حزب الله» كي يقنعنا بالنصر إلا أن يدّعي أن فرص العمل المتوفرة في إسرائيل معظمها في قطاع تحليل خطاباته وخططه ومقابلاته وأنه لا اقتصاد حقيقياً في «بيت العنكبوت».
وكي نصدق النصر المؤزّر علينا أن نتغاضى عن أن لبنان المنتصر على إسرائيل، والمهزوم أمام غطرسة النفايات والكهرباء وباقي الخدمات البسيطة في القرن الحادي والعشرين، لا ينبغي أن يعنيه تفوق إسرائيل التكنولوجي، الذي وصل إلى حد بات يحكى عن المثلث الصيني الأميركي الإسرائيلي. أي أن إسرائيل باتت الوسيط التقني بين الجبارين المتصارعين كونها تحظى بعلاقات تجارية مهمة معهما وبعلاقة خاصة مع واشنطن تطمئنها إلى عدم تسرب التكنولوجيات ذات الاستخدام المزدوج إلى الصين… هل مَن يلخص لنصر الله الدور الذي تلعبه إسرائيل وسط أزمة شركة «هواوي» بين بكين وواشنطن؟!
دَعْكَ من كل هذا! دأب نصر الله على القول إن المقاومات التي انتصرت حكمت إلا «حزب الله»، وهو خطأ تاريخي مزدوج... أولاً لأنه حاكم فعلي في لبنان، وثانياً لأن تاريخ المقاومات ليس بهذه البساطة. الأمثلة كثيرة لكنني سأكتفي بالنموذج الأكثر إشراقاً. هل بين المتفرنسين من محازبيه وبينهم نائب أُحيل قصراً إلى التقاعد النيابي، مَن يلخّص للقائد المظفر تجربة شارل ديغول في قيادة المقاومة والتواضع أمام الحكم؟ مثل ديغول روح فرنسا بين الأعوام 1940 و1946، قاد من بريطانيا مقاومة فرنسا الحرة في مواجهة حكومة فيشي التي كانت تحظى لفترة باعتراف أميركا والاتحاد السوفياتي والفاتيكان… وانتصر... وعاد في مثل هذه الأيام من عام 1944 إلى باريس التي تحمل ساحتها الرئيسية اسمه، وأسهم لسنتين في إعادة تكوين النظام السياسي لكنه ذهب إلى التقاعد بعدها لأنه لم ينجح في فرض رؤيته على دستور الجمهورية الرابعة بإعطاء الرئيس صلاحيات أوسع... وما عاد ديغول إلى الحكم إلا عام 1958 في ضوء أزمة الجزائر... أما البقية فمتروك للمحازبين يلخصونه لسيدهم.
حين اختار التقاعد على الدخول في صراع سياسي قال ما معناه إنه لم يعد مِلكاً لنفسه بل بات مِلكاً للأمة الفرنسية وإنه بات رمزاً ينبغي الحفاظ على نقائه، حتى إذا احتاجت إليه فرنسا يوماً يكون هو في مخزن الذاكرة رصيداً، وكان.
في سنوات تقاعده استعادت باريس روحها وأكثر... الانتصار الحقيقي لم يكن تأبيد المقاومة أو بناء «فرنسا المقاوِمة»، بل أن يتصدر ألبير كامو وجان بول سارتر وسيمون دو بوفوار مشهد الصحافة الفرنسية التي باتوا أبرز رؤساء التحرير فيها. أن تزدهر مدارس فلسفية جديدة كالمدرسة الوجودية، وأن يذهب الفن التشكيلي إلى أقاصي تجربة الخطوط والألوان. أن تنتصر الحرية لكتب الأميركي هنري ميلر فينشر بالفرنسية أولاً هرباً من الرقابة في أميركا... أدت المقاومة قسطها واستراحت واستعادت فرنسا روحها.
هكذا تكون الانتصارات وهكذا تستمر... أين هذا الانتصار من انتصارنا، الذي إذا ما حالفنا مثله بعد نكون قد انتهينا إلى الأبد؟