بقلم: نديم قطيش
حين ترفض إيران تصديق رواية الصين عن فيروس «كورونا» وأعداد الإصابات والوفيات التي أعلنتها وتعلنها، تكون رواية الصين قد بلغت هشاشتها القصوى. لم تعد أميركا فقط من يشكك في الوارد إلينا من الصين.
المتحدث باسم وزارة الصحة الإيرانية، كيانوش جهانبور، قال عن الأرقام التي تعلنها بكين إنها «مزحة مريرة»، وحمّلها ضمناً مسؤولية الكارثة التي حلّت ببلاده، لأنها أدت إلى فهم مغلوط لحقيقة الفيروس. فكثيرون في العالم، وبسبب من أرقام الصين ومعلوماتها المعلنة في بداية الوباء، سيقوا إلى الاستنتاج أن «هذا المرض يشبه الإنفلونزا مع عدد أقل من الوفيات»؛ قال جهانبور. وهو ما سبق أن أقرّ به أيضاً مساعد وزير الصحة الإيراني، رضا ملك زاده.
تزيل هذه التصريحات ركاماً عالياً من اللغو الآيديولوجي الإيراني، ثم الصيني لاحقاً، عن أن الفيروس جزءٌ من حرب بيولوجية يشنّها «الشيطان الأكبر» ضدّ الجمهورية الإسلامية وبقية خصومه. لكن الأهمّ أن التشكيك الإيراني في رواية الصين يأتي في اللحظة التي تنشط فيها دعاية صينية شرسة لإعلان وفاة الزمن الأميركي وولادة لحظة الصين.
لا شك في أن الشخصية السياسية العامة للدولة في الصين بدأت مرحلة تحوّل كبرى منذ وصول شي جينبينغ إلى قيادتها أميناً عاماً للحزب الشيوعي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، ثم رئيساً في مارس (آذار) 2013. نقل شي الصين خلال العقد الماضي وبسرعة إلى نظام الشخص، وألغى عام 2018 القوانين التي تحدد عدد الولايات الرئاسية، معلناً بقاءه في السلطة إلى أجل غير مسمى. تلقائياً زادت الحاجة إلى القمع، لتثبيت الهيبة وصناعة دولة الرعب التي وحدها تحمي الشخص على كرسيه. ارتفعت وتيرة القمع في إقليم كسينغيانغ المسلم الذي يذكّر الصين بقصور آلياتها لإدارة التعدد الثقافي والإثني، وفي هونغ كونغ الرأسمالية التي تذكّر الصين بأن الديمقراطية طريق وحيدة للرفاه المستدام، وفي التيبت؛ أعلى هضاب العالم «وبرج الماء»، التي تشهر في وجه الصين كل صباح لعنة الجغرافيا، لأنها البرج الذي لو أمسكت به الهند لسقطت الصين بكاملها، كما لأنها منبع الأنهر الصينية الرئيسية الثلاثة...
يجد شي نفسه بإزاء أزمة صحية كونية تتضح صورة مسؤولية الصين عنها، وتتضح مسؤولية «حكم الشخص» عن تفشّيها، حيث إن خوف حكام المقاطعات من قسوة المحاسبة دفع بهم لإخفاء المعلومات، كما أن خوف «حكم الشخص» على سمعة النظام وهيبته دفع به للكذب والتعمية.
ويجد شي نفسه، والعالم أيضاً، إزاء أزمة اقتصادية متفرعة عن الأزمة الصحية، والصين في غير الموقع الاقتصادي الذي كانته في أثناء الانهيار المالي عام 2008. يومها قادت الصين العالم عبر ضخ حزمة تحفيز مالي واقتصادي بقيمة 600 مليار دولار أو ما يعادل 13 في المائة من الناتج القومي الصيني، مما سمح للتجارة الدولية بفكّ خناقها. صين اليوم في وضع مختلف؛ مثقلة بديون الاستثمارات التي أنفقتها منذ 2008 على مشاريع تمويل البنية التحتية؛ لا سيما مبادرة «الحزام والطريق»، ومهددة بموجة ثانية من فيروس «كورونا».
يملأ شي كل هذه الفجوات بدعاية سياسية ناجحة جداً وبماكينة هائلة لتصنيع الأخبار الكاذبة أو غير الدقيقة. من علامات نجاح الدعاية شريط مترجم إلى الصينية انتشر كالنار في الهشيم للسيناتور الشاب عن ولاية فلوريدا ماركو روبيو، متحدثاً في إحدى جلسات الكونغرس. يُعلي روبيو الصوت في خطاب عاطفي تخويفي حول مصير التنافس الصيني - الأميركي، متحدثاً بحماسة عن حلول سوق الأسهم الصينية مكان الأميركية خلال 10 سنوات، وعن الخضوع السياسي للصين في مقابل الحصول على ما يعوزه المستهلك الأميركي من أدوية وغيرها، ومهوّلاً حول معاني تقدم الصين في تكنولوجيات الجيل الخامس «جي5» والذكاء الصناعي... وغيرها.
أصاب روبيو في كثير مما قاله على مستوى الوقائع. لكنّ انتصاراً تقنياً لا يصنع دوراً إمبراطورياً للصين تَخْلُف به أميركا.
كثير مما قاله روبيو قيل في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات من القرن الماضي حين سبق الاتحاد السوفياتي أميركا إلى الفضاء الخارجي، كما تلاحظ روتشير شارما في مقال مهم في مجلة «فورين أفيرز».
في السبعينات، إبان فورة أسعار النفط، قيل كلام مشابه عن قرب تجاوز الاقتصاد السوفياتي نظيره الأميركي، إلا إن الاتحاد نفسه انهار في نهاية العقد التالي. جاء دور الوريث الياباني في الثمانينات، لكن خرافة صعود اليابان بديلاً لأميركا انتهت بانهيار بورصة طوكيو في نهاية الثمانينات. والآن خرافة الصين.
الواقع أن حصة الولايات المتحدة من الناتج العالمي 25 في المائة، وهي حصة شبه ثابتة طوال 4 عقود، في مقابل 16 في المائة للصين، التي وإن كانت حصة مهيبة، فإنها تأتي على حساب حصص اليابان وأوروبا وروسيا وليس الولايات المتحدة.
وقد زادت قيمة سوق الأسهم الأميركية بنسبة 250 في المائة خلال السنوات العشر الماضية، أي أكبر بنحو 4 مرات من أي سوق أسهم في العالم، بما في ذلك سوق الصين التي زادت قيمتها 70 في المائة فقط، في وقت تتصدر فيه 7 شركات أميركية قائمة أكبر الشركات في العالم.
وفي حين من المتوقع تنامي الشريحة السكانية العاملة في أميركا بسبب أنظمة الهجرة، حتى عام 2035، فإن الصين تعاني من انكماش هذه الشريحة منذ عامين، وهو ما يشكل تحدياً للنمو الاقتصادي وضغطاً على موازنة الدولة بسبب مخصصات التقاعد.
أما في إطار العلوم؛ فمن الضروري التنبّه إلى أنه في جعبة أميركا 106 جوائز «نوبل»، في مقابل 12 للصين، في حين أن 8 من أفضل 10 جامعات بالعالم موجودة في أميركا.
حدّث ولا حرج عن الفوارق الخرافية بين القوتين الناعمتين، بحسب عبارة جوزيف ناي، الصينية والأميركية على مستوى اللغة والفنون والسينما وقيم النظام السياسي والإعلام.
ورغم كل السمعة الإمبريالية لأميركا، فإن الدول أقرب للتحالف مع أميركا لمواجهة الصين وليس العكس، بما في ذلك دول جوار الصين كالهند وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام، في مقابل اطمئنان الجوار الأميركي لعلاقته بأميركا.
الصين دولة كبيرة، ولكن يعوزها الكثير قبل أن تتحول، ليس إلى بديل لأميركا في العالم، بل إلى بديل لأميركا في آسيا نفسها.