توقيت القاهرة المحلي 10:17:57 آخر تحديث
  مصر اليوم -

العصر الحجري مقابل العصر الحجري

  مصر اليوم -

العصر الحجري مقابل العصر الحجري

بقلم - نديم قطيش

معادلة التوازن الجديدة بين ميليشيا «حزب الله» وإسرائيل التي بشرنا بها حسن نصر الله، ومفادها «العصر الحجري مقابل العصر الحجري»، ليست سوى دليل إضافي على حجم الانفصال عن الواقع الذي يعاني منه الرجل، وفقر معارفه بالتاريخ وديناميات القوة.

يعيدنا نصر الله، عبر معادلته، إلى لغة الحرب الباردة، ونظرية توازن الرعب من الدمار النووي الشامل المؤكد والمتبادل، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. إغراء التشبيه مغرٍ بلا شك، لكنه أبعد ما يكون عن الواقع.

تعاني هذه المعادلة من الخلل الداخلي ذاته الذي عانته معادلة توازن الرعب إبان الحرب الباردة. تغاضى المنظرون حينها واليوم عن الفوارق الشاسعة بين عناصر القوة غير المسلحة على طرفي النزاع. لم ينهر الاتحاد السوفياتي في نهاية المطاف بسبب نقص في جاهزيته النووية، بل بسبب التصدع المجتمعي والقيمي الداخلي ورداءة النظام الاقتصادي وفشله.

على هذا النحو، تبدو معادلة نصر الله غافلة عن اختلال ميزان القوة غير المسلحة لصالح إسرائيل. فالناتج المحلي الإسرائيلي هو 522 مليار دولار، في حين أن الناتج المحلي اللبناني بالكاد يتجاوز 21 ملياراً مقروناً بمعدلات تضخم فلكية تتجاوز 185 في المائة، بالإضافة إلى انهيار العملة والتصدع القطاعي الشامل، الذي جعل البنك الدولي يصف ما يعانيه لبنان بأسوأ أزمة اقتصادية يعرفها البلد منذ 150 سنة! وفيما تحتل إسرائيل المرتبة 16 في العالم على مؤشر الابتكار العالمي بين 132 دولة، والأولى في شمال أفريقيا وغرب آسيا، يبدو لبنان عاجزاً عن تأمين الكهرباء لمطاره الدولي!

ولعل الفارق الأغرب هو الفارق السياسي وفارق العلاقات الدولية بين البلدين، بحيث إن لبنان تراجع إلى ما يشبه العزلة، بعد عقود من التألق في المنتديات الإقليمية والدولية، في حين أن علاقات إسرائيل تبدو أوثق من علاقات لبنان نفسه. أما الفارق الثقافي، وهو ما كان على الدوام من ملامح الشخصية اللبنانية المميزة، فبات خارج أي سياق منطقي للمقارنة مع التفوق الحاسم للإنتاجات الإسرائيلية مثلاً عبر منصات «نتفيلكس» و «آبل» كمسلسلي «فوضى» و«طهران»، على سبيل المثال لا الحصر.

يقدم هذا الموجز صورة عن الخلل المتعدد الأوجه بين دولتين تلعبان على أرضين مختلفتين تماماً، ما يؤكد الطبيعة الوهمية للتوازن والتماثل في علاقاتهما ومصادر قوتهما.

وحتى لو اكتفينا بالأبعاد العسكرية لمعادلة التوازن، سنجد أن تقديم الطرفين كمصارعين متساويين، ليس سوى نظرة تبسيطية تتجاهل بشكل خطير واقع التفوق الإسرائيلي في مجال التكنولوجيا العسكرية. قبل أيام فقط أعلنت إسرائيل أنّ الولايات المتّحدة أجازت لها إبرام صفقة عسكرية «تاريخية» بقيمة 3.5 مليار دولار تبيع بموجبها إسرائيل لألمانيا منظومات دفاع جوي فرط صوتية من نوع «آرو-3»، في أضخم صفقة عسكرية تبرمها إسرائيل في تاريخها.

التاريخ حافل بأمثلة عن لاعبين صغار انتصروا على خصوم يفقونهم قوة وشراسة، لكن سياق هذه الانتصارات غالباً ما انطوى على حروب تحرير أو مقاومة ضد الاحتلال، وهو سياق مختلف جذرياً عن الديناميكيات الحالية بين لبنان وإسرائيل. إن هزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان في الثمانينات، على يد مقاومة محلية شرسة، والتحديات الهائلة التي واجهها الجيش الإسرائيلي في لبنان، أو يواجهها في فلسطين، أمثلة واضحة تؤكد قدرة المقاومات على تحقيق نتائج ضد قوة محتلة بصرف النظر عن الفارق النوعي بين الاثنين. بيد أن الوضع بين لبنان وإسرائيل اليوم مختلف بشكل ملحوظ، حيث نجد أنفسنا إزاء شيء أقرب إلى لعبة توازن عسكري تقليدي بين دولتين، لا لعبة تحرير واحتلال، في ضوء أن لا احتلال إسرائيلي فعلي للبنان، بل جيوب حدودية قليلة متنازع عليها. وفي مثل هذا السياق المحدد لمواجهة شبه تقليدية بين لبنان وإسرائيل، فإن الأمثلة نادرة جداً على حالات تمكن فيها اللاعب الأصغر من هزيمة الخصم الأكبر والأكثر تطوراً.

ثم إن معادلة نصر الله تنطوي على عيوب عميقة. إن استسهال إعادة مجتمعات بأكملها إلى العصر الحجري فكرة منزوعة العصب الأخلاقي، جرى امتحان شبيهاتها في كل اليوتوبيات القاتمة التي أعلت مقام الآيديولوجيا على الإنسان. إنها استراتيجية لا تقبل فقط احتمال الدمار واسع النطاق بل تتبناه كشكل شرعي من أشكال الردع، من دون أي توقف عند التبعات المجتمعية الكارثية والخسارة المحتملة في الأرواح.

المريع أكثر أن معادلة نصر الله تتجاهل ما يمكن للدبلوماسية أن تحققه. يقدم حل النزاع البحري بين إسرائيل ولبنان، الذي أدى إلى بدء جهود استكشاف الغاز في المياه اللبنانية الجنوبية، درساً في قدرة الدبلوماسية على إنتاج فوائد متبادلة بين لبنان وإسرائيل قابلة للتوسع والاستدامة. سيقال طبعاً إنه ما تحقق ذلك إلا بسبب وجود السلاح. حسناً! لنضع للسلاح هذه الوظيفة إذن، وليُستثمر السلاح في خلق فرص تفاوضية لاستعادة مزارع شبعا، إن ثبتت لبنانيتها، ولإنهاء ترسيم الحدود وربما لإحياء اتفاق الهدنة، أو ربما للدخول في مسار السلام الشامل الناشط اليوم. وليكن السلاح أداة في تعزيز موقع لبنان ضمن منظومة المصلحة العربية المشتركة.

في عالم السياسة الواقعية، يمكن لترسانة ميليشيا «حزب الله» أن تعزز الموقف التفاوضي للبنان، وأن تخدم مصالح اللبنانيين. لكن هذه الفكرة سرعان ما تنهار عندما نتذكر الآيديولوجية الأساسية التي تحرك «حزب الله»، ككيان يغذيه شغف عقائدي بتدمير إسرائيل، وشغف مذهبي ثأري ضد المحيط العربي، حتى لو كان الثمن تدمير لبنان برمته.

إن معادلة نصر الله «العصر الحجري مقابل العصر الحجري» ليست خاطئة ومعيبة وحسب، بل هي تأكيد على أن فكرة تحويل قدرات ميليشيا «حزب الله» العسكرية إلى رصيد دبلوماسي ليست سوى خيال سياسي، يخدم تأبيد هيمنة السلاح على حياة اللبنانيين.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العصر الحجري مقابل العصر الحجري العصر الحجري مقابل العصر الحجري



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 09:09 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب
  مصر اليوم - تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب

GMT 08:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
  مصر اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 08:53 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 23:13 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل
  مصر اليوم - بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل

GMT 09:29 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

طهران ترحب بوقف إطلاق النار في لبنان
  مصر اليوم - طهران ترحب بوقف إطلاق النار في لبنان

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 04:48 2019 الإثنين ,08 إبريل / نيسان

أصالة تحيى حفلا في السعودية للمرة الثانية

GMT 06:40 2018 الأحد ,23 كانون الأول / ديسمبر

محشي البصل على الطريقة السعودية

GMT 04:29 2018 الخميس ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

روجينا تكشّف حقيقة مشاركتها في الجزء الثالث من "كلبش"

GMT 19:36 2018 الأحد ,22 إبريل / نيسان

تقنية الفيديو تنصف إيكاردي نجم إنتر ميلان

GMT 13:02 2018 الإثنين ,02 إبريل / نيسان

علماء يكشفون «حقائق مذهلة» عن السلاحف البحرية

GMT 20:26 2018 السبت ,31 آذار/ مارس

إيران توقف “تليجرام” لدواع أمنية

GMT 22:47 2018 الجمعة ,09 شباط / فبراير

مبابي يغيب عن نادي سان جيرمان حتى الكلاسيكو

GMT 21:12 2018 الأحد ,28 كانون الثاني / يناير

الزمالك يحصل على توقيع لاعب دجلة محمد شريف
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon