توقيت القاهرة المحلي 17:53:53 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ليذهب طائر الفينيق إلى الجحيم

  مصر اليوم -

ليذهب طائر الفينيق إلى الجحيم

بقلم - نديم قطيش

البلد الآيل للسقوط لا يسقط تماماً. لم يعرف لبنان طوال حربه الأهلية حجم الأهوال التي عرفتها سوريا في فترة أقل. ولا مر عليه ما يمر على الليبيين والسودانيين هذه الأيام من تشظٍ كامل للعناصر الأولية للدولة. وإذا نهض يصنع لبنان شيئاً يشبه المعجزة، كما حصل إبان حقبة الراحل رفيق الحريري، وفي سنوات معدودات، قبل انطلاق مشروع التغول عليه وقتله في ختامه.

باتت سردية «طائر الفينيق»، إذاك، أقوى الخرافات المؤسسة للهوية الوطنية اللبنانية. كأن قدر اللبنانيين هو الاحتراق حتى الرماد ثم النهوض بأجنحة من نور وألق. بيد أن مشكلة لبنان وشعبه هي هنا تماماً. أزمتهما في هذا التصور عن الذات الذي يسمح للذاكرة اللبنانية بهضم الأحداث والمصائب وكأنها لم تكن.

وعليه، بات التخلص من هذه الثقافة الوطنية معبراً اضطرارياً لإعادة تصور الذات ومعنى الوطن والمستقبل والكرامة، وإن كانت وقائع كثيرة تسندها وتسهم في تأبيدها في الوعي. من الوقائع تلك، أنه وفي ذروة الانهيار المالي والاقتصادي والمؤسساتي، يزدهر قطاع السياحة في لبنان، متجاوزًا كل التوقعات لناحية عدد السياح والرحلات الجوية ونسب توزيع الجنسيات بين الوافدين الذين شكل الأوروبيون أكثر من 40 في المائة من إجمالي عددهم. وكانت حسابات «إنستغرام» اللبنانية تنقل صور المهرجانات والاحتفالات والفعاليات كأن البلاد تعيش أفضل أيام عزّها، وعلى نحو باذخ يتجاوز ما يمكن الحصول عليه في منتجعات «ميكونوس» أو «إبيزا».

على الضفة الأخرى للمشهد اللبناني، شهد مخيم «عين الحلوة»، أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في لبنان، أياماً من القتال العنيف بين حركة «فتح» والمسلحين الإسلاميين. نزحت مئات العائلات، ودمر ما يصل إلى 400 منزل، عدا عن سقوط 13 قتيلاً وعشرات الجرحى، في اشتباكات تذكر بشكل صارخ بالهشاشة الكامنة وراء نمط الحياة اللبناني.

وما إن هدأ المخيم، حتى عاد القتل السياسي والتوتر الطائفي ليطل برأسه مع حادثة مقتل إلياس حصروني، القيادي البارز في القوات اللبنانية، في بلدة مسيحية جنوب لبنان. أظهرت مقاطع فيديو من كاميرات المراقبة في البلدة أن سيارة الضحية اعتُرضت من سيارات، وسُحبت إلى المكان الذي عثر عليه ميتاً فيه.

وبفارق ساعات، اندلعت في بلدة الكحالة المسيحية، اشتباكات بين الأهالي وعناصر من ميليشيا «حزب الله» كانت تواكب شاحنة ذخيرة انقلبت على الطريق الرئيسية للبلدة، وهو جزء مما يعرف بخط الشام الدولي بين لبنان وسوريا. قتل شخصان في اشتباكات بين الطرفين فيما لا تزال حال الغليان هي السائدة وسط كم غير مسبوق من التصريحات السياسية والشعبية العنيفة ضد الميليشيا.

ازدواجية الحياة هذه في لبنان، وما تستحضره من مدائح تكال للروح اللبنانية، ينبغي أن تكون بمثابة تنبيه صارخ بأن الصمود وحده لا يكفي لمداواة الأمراض القاتلة التي تفتك بلبنان ودولته ونظامه ومستقبله. لم تعد حيوية لبنان المتأصلة وشغف أبنائه بالحياة كافية لدرء التفكك التام للمجتمع والدولة. مرونة اللبنانيين وصمودهم، وأسطورة طائر فينيقهم باتت لب المشكلة اليوم، بسبب قدرتها على تكوين قشرة انتصار تخمد الغضب الحقيقي والإحباط، وتمنعهما من التحول إلى قوة سياسية للتغيير. فما كان مدعاة للفخر بات حجاباً يعمي اللبنانيين عن الاحتمال الحقيقي بأن بلدهم قد يندثر من الوجود، أقله كما عرفوه وأحبوه.

ليذهب طائر الفينيق إلى الجحيم، وليتعرَّ اللبنانيون من الأوهام بإزاء حجم الكارثة التي يعيشون في قعر قعرها. فمن دون تحويل الغضب مادة للتعبئة السياسية اللازمة خلف مطالب الإصلاح الحقيقية والجذرية، وأولها التخلص من سلاح ميليشيا «حزب الله» كشرط مسبق لأي تسوية سلمية، فإن البلد معرض لفقدان هويته وكيانه إلى الأبد.

حقيقة الأمر أن الإحساس الزائف بالقدرة على الصمود والنهوض ليس حكراً على لبنان. يعج التاريخ بتجارب مماثلة، مهدت الطريق في بعض الأحيان للزوال التام لمجتمعات ودول. لبنان بهذا المعنى ليس أفضل حظاً من الإمبراطورية الرومانية، على سبيل المثال، التي سبقت سقوطها، حقبة من الاستقرار الواضح والعظمة التي أخفت تحتها عناصر الانهيار والضعف الكامنين. مرونة روما واحتفالية أهلها المستمرة بعظمة سلطتها على الرغم مما واجهته من أزمات وغزوات وصراعات داخلية وفساد، أعميا الكثيرين عن الانهيار الوشيك.

كثيرة هي وجوه الشبه بين الإمبراطورية العملاقة وبين الوطن الصغير.

كما اللبنانيين، المنتصر بعضهم على إسرائيل والمنتصر بعضهم الآخر على المآسي والمظالم، عانى الرومان من فائض الشعور بالانتصار، والإيمان بالقوة الأبدية للإمبراطورية، في حين وفر لهم ما أنجزوه على مر التاريخ شعوراً زائفاً بالمناعة ضد المآلات الكارثية المحتملة، التي كانت تلوح في أفق الإمبراطورية.

وكما سطوة ثقافة الحياة اللبنانية، فإن الهيمنة الثقافية المستمرة للإمبراطورية الرومانية والاحتفال بأمجادها الماضية أخفيا الشقوق المتزايدة داخل أسسها. منع الإيمان بالمرونة الأبدية للإمبراطورية من التنبه للإنذارات المبكرة، تماماً كما تفعل أسطورة طائر الفينيق في الشخصية الوطنية اللبنانية.

كان تدهور الإمبراطورية الرومانية عملية معقدة، تحولت فيها المرونة إلى شكل من أشكال إنكار الواقع، منع الإصلاحات الضرورية والتكيفات التي كان من الممكن أن تحفظ بها عظمتها. سقوط روما العظيمة تذكير قاتم للبنان الصغير بأن الصمود وحده لا يكفي، والرهان الدائم على إمكانات النهوض يخلق حالة مرضية من الرضا عن الذات، تعيق الجهود الضرورية لمواجهة التحديات الأساسية.

لن يستعاد لبنان ما لم يُمحق طائر الفينيق ويواجه اللبنانيون جحيمهم بوصفه جحيماً، لا بوصفه «شدة وتزول».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ليذهب طائر الفينيق إلى الجحيم ليذهب طائر الفينيق إلى الجحيم



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 12:40 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت
  مصر اليوم - محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 00:26 2021 الأربعاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يضيف لسجله أرقاماً قياسية جديدة

GMT 10:18 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

شوربة الخضار بالشوفان

GMT 08:15 2020 الثلاثاء ,09 حزيران / يونيو

فياريال يستعين بصور المشجعين في الدوري الإسباني

GMT 09:19 2020 الجمعة ,24 إبريل / نيسان

العالمي محمد صلاح ينظم زينة رمضان في منزله

GMT 09:06 2020 الأربعاء ,22 إبريل / نيسان

تعرف علي مواعيد تشغيل المترو فى رمضان

GMT 12:50 2019 الثلاثاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

علالو يؤكّد الجزائر "تعيش الفترة الأهم في تاريخ الاستقلال"

GMT 04:46 2019 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

اتجاهات ديكور المنازل في 2020 منها استخدام قطع أثاث ذكي

GMT 00:42 2019 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

بدء تصوير فيلم "اهرب يا خلفان" بمشاركة سعودية إماراتية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon