توقيت القاهرة المحلي 11:39:30 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ليذهب طائر الفينيق إلى الجحيم

  مصر اليوم -

ليذهب طائر الفينيق إلى الجحيم

بقلم - نديم قطيش

البلد الآيل للسقوط لا يسقط تماماً. لم يعرف لبنان طوال حربه الأهلية حجم الأهوال التي عرفتها سوريا في فترة أقل. ولا مر عليه ما يمر على الليبيين والسودانيين هذه الأيام من تشظٍ كامل للعناصر الأولية للدولة. وإذا نهض يصنع لبنان شيئاً يشبه المعجزة، كما حصل إبان حقبة الراحل رفيق الحريري، وفي سنوات معدودات، قبل انطلاق مشروع التغول عليه وقتله في ختامه.

باتت سردية «طائر الفينيق»، إذاك، أقوى الخرافات المؤسسة للهوية الوطنية اللبنانية. كأن قدر اللبنانيين هو الاحتراق حتى الرماد ثم النهوض بأجنحة من نور وألق. بيد أن مشكلة لبنان وشعبه هي هنا تماماً. أزمتهما في هذا التصور عن الذات الذي يسمح للذاكرة اللبنانية بهضم الأحداث والمصائب وكأنها لم تكن.

وعليه، بات التخلص من هذه الثقافة الوطنية معبراً اضطرارياً لإعادة تصور الذات ومعنى الوطن والمستقبل والكرامة، وإن كانت وقائع كثيرة تسندها وتسهم في تأبيدها في الوعي. من الوقائع تلك، أنه وفي ذروة الانهيار المالي والاقتصادي والمؤسساتي، يزدهر قطاع السياحة في لبنان، متجاوزًا كل التوقعات لناحية عدد السياح والرحلات الجوية ونسب توزيع الجنسيات بين الوافدين الذين شكل الأوروبيون أكثر من 40 في المائة من إجمالي عددهم. وكانت حسابات «إنستغرام» اللبنانية تنقل صور المهرجانات والاحتفالات والفعاليات كأن البلاد تعيش أفضل أيام عزّها، وعلى نحو باذخ يتجاوز ما يمكن الحصول عليه في منتجعات «ميكونوس» أو «إبيزا».

على الضفة الأخرى للمشهد اللبناني، شهد مخيم «عين الحلوة»، أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في لبنان، أياماً من القتال العنيف بين حركة «فتح» والمسلحين الإسلاميين. نزحت مئات العائلات، ودمر ما يصل إلى 400 منزل، عدا عن سقوط 13 قتيلاً وعشرات الجرحى، في اشتباكات تذكر بشكل صارخ بالهشاشة الكامنة وراء نمط الحياة اللبناني.

وما إن هدأ المخيم، حتى عاد القتل السياسي والتوتر الطائفي ليطل برأسه مع حادثة مقتل إلياس حصروني، القيادي البارز في القوات اللبنانية، في بلدة مسيحية جنوب لبنان. أظهرت مقاطع فيديو من كاميرات المراقبة في البلدة أن سيارة الضحية اعتُرضت من سيارات، وسُحبت إلى المكان الذي عثر عليه ميتاً فيه.

وبفارق ساعات، اندلعت في بلدة الكحالة المسيحية، اشتباكات بين الأهالي وعناصر من ميليشيا «حزب الله» كانت تواكب شاحنة ذخيرة انقلبت على الطريق الرئيسية للبلدة، وهو جزء مما يعرف بخط الشام الدولي بين لبنان وسوريا. قتل شخصان في اشتباكات بين الطرفين فيما لا تزال حال الغليان هي السائدة وسط كم غير مسبوق من التصريحات السياسية والشعبية العنيفة ضد الميليشيا.

ازدواجية الحياة هذه في لبنان، وما تستحضره من مدائح تكال للروح اللبنانية، ينبغي أن تكون بمثابة تنبيه صارخ بأن الصمود وحده لا يكفي لمداواة الأمراض القاتلة التي تفتك بلبنان ودولته ونظامه ومستقبله. لم تعد حيوية لبنان المتأصلة وشغف أبنائه بالحياة كافية لدرء التفكك التام للمجتمع والدولة. مرونة اللبنانيين وصمودهم، وأسطورة طائر فينيقهم باتت لب المشكلة اليوم، بسبب قدرتها على تكوين قشرة انتصار تخمد الغضب الحقيقي والإحباط، وتمنعهما من التحول إلى قوة سياسية للتغيير. فما كان مدعاة للفخر بات حجاباً يعمي اللبنانيين عن الاحتمال الحقيقي بأن بلدهم قد يندثر من الوجود، أقله كما عرفوه وأحبوه.

ليذهب طائر الفينيق إلى الجحيم، وليتعرَّ اللبنانيون من الأوهام بإزاء حجم الكارثة التي يعيشون في قعر قعرها. فمن دون تحويل الغضب مادة للتعبئة السياسية اللازمة خلف مطالب الإصلاح الحقيقية والجذرية، وأولها التخلص من سلاح ميليشيا «حزب الله» كشرط مسبق لأي تسوية سلمية، فإن البلد معرض لفقدان هويته وكيانه إلى الأبد.

حقيقة الأمر أن الإحساس الزائف بالقدرة على الصمود والنهوض ليس حكراً على لبنان. يعج التاريخ بتجارب مماثلة، مهدت الطريق في بعض الأحيان للزوال التام لمجتمعات ودول. لبنان بهذا المعنى ليس أفضل حظاً من الإمبراطورية الرومانية، على سبيل المثال، التي سبقت سقوطها، حقبة من الاستقرار الواضح والعظمة التي أخفت تحتها عناصر الانهيار والضعف الكامنين. مرونة روما واحتفالية أهلها المستمرة بعظمة سلطتها على الرغم مما واجهته من أزمات وغزوات وصراعات داخلية وفساد، أعميا الكثيرين عن الانهيار الوشيك.

كثيرة هي وجوه الشبه بين الإمبراطورية العملاقة وبين الوطن الصغير.

كما اللبنانيين، المنتصر بعضهم على إسرائيل والمنتصر بعضهم الآخر على المآسي والمظالم، عانى الرومان من فائض الشعور بالانتصار، والإيمان بالقوة الأبدية للإمبراطورية، في حين وفر لهم ما أنجزوه على مر التاريخ شعوراً زائفاً بالمناعة ضد المآلات الكارثية المحتملة، التي كانت تلوح في أفق الإمبراطورية.

وكما سطوة ثقافة الحياة اللبنانية، فإن الهيمنة الثقافية المستمرة للإمبراطورية الرومانية والاحتفال بأمجادها الماضية أخفيا الشقوق المتزايدة داخل أسسها. منع الإيمان بالمرونة الأبدية للإمبراطورية من التنبه للإنذارات المبكرة، تماماً كما تفعل أسطورة طائر الفينيق في الشخصية الوطنية اللبنانية.

كان تدهور الإمبراطورية الرومانية عملية معقدة، تحولت فيها المرونة إلى شكل من أشكال إنكار الواقع، منع الإصلاحات الضرورية والتكيفات التي كان من الممكن أن تحفظ بها عظمتها. سقوط روما العظيمة تذكير قاتم للبنان الصغير بأن الصمود وحده لا يكفي، والرهان الدائم على إمكانات النهوض يخلق حالة مرضية من الرضا عن الذات، تعيق الجهود الضرورية لمواجهة التحديات الأساسية.

لن يستعاد لبنان ما لم يُمحق طائر الفينيق ويواجه اللبنانيون جحيمهم بوصفه جحيماً، لا بوصفه «شدة وتزول».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ليذهب طائر الفينيق إلى الجحيم ليذهب طائر الفينيق إلى الجحيم



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 11:39 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

أحمد الفيشاوي يتعرّض لهجوم جديد بسبب تصريحاته عن الوشوم
  مصر اليوم - أحمد الفيشاوي يتعرّض لهجوم جديد بسبب تصريحاته عن الوشوم

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:31 2020 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

لعنة الغيابات تضرب بيراميدز قبل مواجهة الطلائع في الكأس

GMT 07:46 2020 الأحد ,11 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الأسماك في مصر اليوم الأحد 11 تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:43 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

فنانة شابة تنتحر في ظروف غامضة

GMT 21:14 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مؤشرا البحرين يقفلان التعاملات على ارتفاع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon