بقلم: نديم قطيش
لن يكون مجدياً البحث عن هوية «الشرارة الأولى» لمظاهرات العراق غير المسبوقة. الشرارة في هذه الحالة مجرد ذريعة ليأخذ الغضب مساره نحو التعبير الحاد عن عمق الأزمة التي تضرب النظام السياسي العراقي المولود ما بعد سقوط صدام حسين عام 2003.
فمن خرج بداية للاحتجاج على نقل الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي، من منصب نائب قائد جهاز مكافحة الإرهاب، إلى وزارة الدفاع، سرعان ما توسعت مطالبه نحو الاحتجاج على البطالة وتفشي الفساد وفشل عموم الطبقة السياسية، بشكل غير مسبوق في شموليته.
تكاد تكون المرة الأولى التي يخرج فيها الشارع العراقي، في المدن الشيعية الجنوبية وبغداد، من دون تحريك وقيادة وتوجيه من الزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر، الذي تعد حكومة عادل عبد المهدي حكومته، قبل غيره من الأحزاب الشيعية الأخرى.
ومن خرج مدفوعاً بانسداد الأفق الاقتصادي والاجتماعي أمامه، سرعان ما صبَّ جام غضبه على النخبة الشيعية الحاكمة وارتباطها بإيران، التي أحرقت إعلامها بأيدٍ شيعية وفي شوارع شيعية، وأزيلت ومزقت صور قادتها، بدءاً بالمرشد علي خامنئي.
هذا الاختلاط في العناوين والتدافع المطلبي، إذ يؤكد الطبيعة التلقائية والصفة الاستقلالية للمظاهرات، إلا أنه يؤشر إلى عمق واستفحال الأزمة التي يواجهها العراق، بما يجعل من مخارج تغيير الحكومة أو المداواة ببعض القرارات التنفيذية، ضرباً من ضروب اليأس ليس إلا.
في واحدٍ من الفيديوهات الأكثر انتشاراً عن «انتفاضة العراق»، شاب عراقي، تدل ملامحه على أنه من جيل ما بعد صدام حسين، يصرخ: «نْريد وطن»، بتسكين النون باللهجة العراقية. والوطن مصطلح رومانسي غائم وشامل وغير عملي. كيف تهدي هذا الشاب وطناً؟ من أين يؤتى بالأوطان أصلاً؟ كم من الأعمار ستستعير له ليرى تحقق مطلب إن وجد من سيغامر بتلبيته؟
مع ذلك «نْريد وطن» هو الشعار الأكثر واقعية في العراق اليوم؛ حيث الوطن صار ساحة، والعملية السياسية مجرد آلية لاقتسام ضيق للنفوذ، وتوزيع أضيق لثروات العراق التي بُددت منها مئات مليارات الدولارات، تصل في بعض التقديرات إلى نحو 700 مليار دولار منذ 2005!
ولأنه كذلك، استعار المتظاهرون من الفريق الساعدي وجهه، ليكون وجهاً للوطن المفقود. فما يميز الساعدي بسيط. يشعر العراقيون بأنه عراقي، وهذا بحد ذاته إنجاز هائل في عراق اليوم. يشعرون أنه مواطن كُلف مهمة حمايتهم في معارك محددة فأدى واجبه؛ بلا ادعاءات خيالية، وبلا عائدات أكثر خيالية. المتظاهرون يريدون وطناً فيه مواطنون. عراقاً فيه عراقيون. لا أكثر ولا أقل.
عند هذه النقطة البسيطة تأخذ انتفاضة العراقيين صفتها كانتفاضة ضد «الكولونيالية الإيرانية» لبلادهم، وتكتسب كل مواصفات حرب التحرير، بالصدور العارية في مواجهة الرصاص الحي.
الحقيقة أن التصريحات الإيرانية أكدت هذا الملمح الآخذ في الهيمنة على عموم حركة الشارع العراقي. فقد غرد علي خامنئي بأن «إيران والعراق شعبان ترتبط أجسادهما وقلوبهما وأرواحهما بوسيلة الإيمان بالله، وبالمحبّة لأهل البيت وللحسين بن علي؛ وسوف يزداد هذا الارتباط وثاقة يوماً بعد يوم. يسعى الأعداء للتفرقة؛ لكنهم عجزوا ولن يكون لمؤامرتهم أثر»، وقد ذيل تغريدته بهاشتاغ «#الحسين_يجمعنا».
وكان قد سبق لممثل خامنئي في «الحرس الثوري» عبد الله حاجي صادقي، أن عد ما يجري في العراق «حرباً حقيقية» مع الولايات المتحدة، محذراً من أنها «تسعى للقضاء على (الحشد الشعبي)».
إن مثل هذا الاستنفار الإيراني، من أعلى سلم هرم القيادة إلى وسائل الإعلام، ينسجم مع استشعار حجم انكشاف الدور الإيراني في مآسي شعوب ودول المنطقة. فعلى الرغم من الأرجحية الأمنية، والعسكرية غير المباشرة عبر توظيف الميليشيات في سوريا والعراق ولبنان واليمن وفلسطين، لم تنجح «الكولونيالية الإيرانية» في أي ساحة من الساحات التي دخلتها في أن تكون جزءاً من أي استقرار. حتى في لبنان الذي يشهد استقراراً أمنياً ما بفعل الاستسلام السياسي لميليشيا «حزب الله»، فهو مهدد بانهيار اقتصادي تتأكد حتميته مع طلوع كل شمس.
وفي عمق أسباب الانهيار المقبل الاختطاف الإيراني للبنان، وتسميم علاقاته مع المحيط العربي بما يمنع الاستثمار في ميزات البلد التفاضلية، وتفعيل بنيته التحتية الخدماتية، وتحويله إلى مجرد اقتصاد ربا وفوائد، وبالتالي تعطيل الفاعلية الاستثمارية للرساميل، وسد أبواب خلق الوظائف، وتدمير القدرة الشرائية للعموم، وتقليص رقعتها إلى أضيق الحدود المتخيلة.
الاستنفار الإيراني مرده أنه من العراق يأتي الضوء الأكثر كشفاً للقدرة التدميرية للنموذج الإيراني ولطبيعته. ومن العراق يأتي فشل نموذج الحكم الذي تروج له إيران وتدافع عنه، على قاعدة مظلوميات شيعية تاريخية ومعاصرة، ما يفرغ خطاب الحقوق من مضمونه ومحتواه، أمام النتائج المريعة لامتحان الكفاءة.
جذرية التحرك في العراق، تأتي من كون الانتفاضة جلها شيعية بجمهورها ومدنها وشوارعها، ضد حكم في غالبيته، موالٍ لإيران الشيعية. لا مجال هنا لتلبيس المتظاهرين صفات ليست لهم. فهم ليسوا «دواعش» ولا أميركيين ولا ولا.. إلخ. هم شيعة في أغلبهم، والأهم، هم عراقيون يبحثون عن وطن، بسيط، لا يعطشون فيه على ضفاف دجلة والفرات.