منذ قيام الثورة الصناعية وإلى اليوم، ومسألة تأمين مصادر الطاقة فى أوروبا تعد مسألة أساسية فى حسابات السياسة الأوروبية، ولاسيما أن أوروبا تعد فقيرة نسبيا بالمصادر الطبيعية للطاقة، وبعد انقضاء عصر الفحم وظهور النفط، لم يتوافر النفط فى أوروبا بالقدر المتناسب مع احتياجاتها، بل إنها تعد من أفقر قارات العالم فى استخراج النفط، الذى لا يتوافر بكميات كبيرة إلا فى ثلاث دول هى روسيا والنرويج والمملكة المتحدة، فى حين يتوافر بكميات محدودة فى الدنمارك وهولندا وإيطاليا وألمانيا.
وقد ظل النفط لسنوات طويلة أحد محاور العلاقات الدولية طوال القرن العشرين، ولأوروبا تحديدا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حين شكل النفط الرخيص الوارد من الخليج العربى عاملا أساسيا فى إعادة بناء القارة الأوروبية، بالتوازى مع مشروع مارشال الأمريكى.
وبعد تلك المرحلة واصل النفط احتلاله موقع الصدارة للدول المختلفة ولاسيما الولايات المتحدة بعد أن خرجت شركاتها النفطية تجوب أنحاء العالم من أجل الاستخراج والتكرير والتجارة محققة أرباحا هائلة، أما غيرها من الدول مثل بريطانيا وفرنسا وهولندا فقد حرصت على إبقاء وتأمين تدفقات النفط إليها من مستعمراتها السابقة، وتأمين مصالح شركاتها بجميع الأساليب، حتى لو تطلب الأمر قيامها بتدبير الإطاحة بالحكومات مثلما حدث فى إيران (الإطاحة بحكومة مصدق)، وفى إندونيسيا الإطاحة بالرئيس سوكارنو.
ولاحقا تجلت ذروة ظهور النفط على ساحة السياسة الدولية فى أكتوبر 1973 بما اصطلح على تسميته صدمة النفط الأولى، عندما قررت منظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط أوابك خفض الإنتاج وفرض حظر على شحنات النفط الخام إلى عدد من الدول الغربية الداعمة لإسرائيل بالمال والسلاح وفى مقدمتها الولايات المتحدة وهولندا، حيث قامت هولندا بتزويد إسرائيل بالأسلحة وسمحت للأمريكيين باستخدام المطارات الهولندية لإمداد ودعم إسرائيل بالسلاح، وبينما تعرضت تسع دول أخرى لحظر كامل، فإن بريطانيا وفرنسا استمر إمدادهما بالنفط دون انقطاع بعد أن رفضتا السماح لأمريكا باستخدام مطاراتهما، وتعرضت ست دول أوروبية أخرى لتخفيضات جزئية فى إمدادات النفط.
كان ما حدث مفاجئا وحاسما، وكرد فعل اقترح هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى تأسيس وكالة الطاقة الدولية، بهدف تنسيق سياسات الطاقة فى الدول الصناعية، وتنظيم مخزوناتها من النفط، والدفاع عن مصالحها فى مواجهة منظمة أوبك، واستطاعت الوكالة بتخطيط محكم أن تحد كثيرا من قوة أوبك وسيطرتها على السوق العالمية للنفط، ومن جهة أخرى أولت الحكومات والمؤسسات والجامعات اهتماما بمجال الطاقة النووية، والطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وفى دولة مثل اليابان فقد حولت اقتصادها بعيدا عن النفط والصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة.
• • •
لم يمض الكثير من الوقت حتى جاءت صدمة النفط الثانية 1978 بعد إضراب عمال النفط فى إيران، وبعدها اندلعت الحرب العراقية الإيرانية وما صاحبها من الضرب المتبادل لناقلات النفط، ومع ارتفاع أسعار النفط تزايدت الضغوط التضخمية فى الغرب، وتعرضت صناعة السيارات الأمريكية لضربة مزدوجة بعد أن باتت محركات سياراتها الشرهة فى استهلاك الوقود غير مرغوب فيها، وبعد أن وجدت شركات السيارات اليابانية الفرصة سانحة لاجتياح الأسواق العالمية بسيارات أكثر كفاءة فى استهلاك الوقود، وهو ما عرض الشركات الأمريكية لأزمات تسويقية ومالية كبرى اضطرت على أثرها للاستغناء عن آلاف من موظفيها.
وهكذا استمر الوضع فى السنوات اللاحقة على ما هو عليه من استمرار النفط كمحرك رئيسى للسياسات والصراعات الدولية فى كافة مناطق العالم، بحيث يمكن تبين شبح حفارات النفط على مسرح السياسة الدولية منذ الأزمة العراقية الكويتية، ثم فرض الحصار على العراق وغزوه واحتلاله، وكذلك فى أماكن أخرى من العالم، ففى دولة مثل فنزويلا وهى أحد أهم مصدرى النفط فى العالم، تتعرض حكوماتها لمناوأة مستمرة من الولايات المتحدة، منذ سعت للحد من هيمنة الشركات النفطية الأمريكية على صناعة النفط فيها.
وفى الوقت الراهن بينت الأزمة الروسية الأوكرانية انكشاف أوروبا وهشاشة موقفها تجاه روسيا التى تصدر لأوروبا 40% من الغاز الطبيعى الذى تستهلكه، ومع الأخذ فى الاعتبار أن دولا مثل مولدوفا والبوسنة والهرسك ومقدونيا الشمالية تستورد 100% من احتياجاتها من الغاز من روسيا، بينما تستورد فنلندا 94% ولاتفيا 93% وصربيا 89%، بلجيكا 77%، ألمانيا 49%، إيطاليا 46%، بولندا 40%، فرنسا 25% تستورد احتياجاتها من روسيا. فضلا عما سببته الأزمة من ارتفاع أسعار الغاز فى أوروبا ووصولها إلى مستوى تاريخى عند 3300 دولار لكل 1000 م3.
وفى ظل ذلك الموقف الحرج الذى تمر به أوروبا، عادت الطاقة النووية من جديد لتجتذب اهتمام الأوروبيين بها كمصدر للطاقة، والتى تنتج فى الوقت الراهن ربع احتياجات أوروبا من الكهرباء، وبعد أن انتهجوا لسنوات طويلة سياسة التخلى عنها لاعتبارات الأمان والتخلص من النفايات النووية، تجرى الآن مراجعة خطط أوروبية بشأن إنفاق نصف تريليون يورو كاستثمارات فى الطاقة النووية، لكن هذه الاستثمارات حتى وإن اعتمدت فلا يتوقع أن يكون لها مردود مباشر فى الوقت الراهن أو الأجل القصير، حيث تمر أوروبا بأصعب أوقاتها فى مجال الطاقة.
• • •
مما لا شك فيه أن الأزمة الروسية الأوكرانية قد ألقت الضوء على حقيقة التبعية الأوروبية الكاملة للولايات المتحدة، وانخراطها فى تنفيذ أجندة السياسة الخارجية الأمريكية حتى لو عرضتها لأخطار جسيمة مثلما هو الحال فى مجال الطاقة، وعلى سبيل المثال ما مارسته الإدارة الأمريكية من الضغوط على الشركات والحكومة الألمانية لإيقاف اعتماد خط أنابيب نورد ستريم 2 برغم أنه كان سيضاعف كمية الغاز الروسى المصدر إلى ألمانيا وأوروبا، ويسفر عن خفض جوهرى فى أسعاره.
ومع اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية، اتخذت الولايات المتحدة وبريطانيا نهجا متشددا فى المواجهة مع روسيا بإمداد أوكرانيا بكميات كبيرة من السلاح وتصعيد العقوبات عليها على مختلف الأصعدة والعمل على استنزافها، فى حين ظهر جليا اتباع الدول الأوروبية لنهج أقل تشددا وأكثر ميلا لإيجاد مخارج لتلك الأزمة، وربما كان السبب فى ذلك إدراك العديد منها لانكشافها تجاه روسيا فى مسألة إمدادات الغاز الطبيعى التى تحتاجها القارة الأوروبية.
تشير الإحصاءات أن المخزونات الحالية من الغاز فى أوروبا تبلغ نسبة 35% وهى بذلك ستكون عرضة للنفاد قبل نهاية العام فى حال توقفت الإمدادات الروسية بالكامل، وهو أمر لو تحقق سيترك أوروبا فى مواجهة مع شتاء قارس بلا مخزونات غاز، كما سيكون له تداعيات كارثية على قطاعات الصناعة والنقل وجميع المجالات دون استثناء.
ولا يتوقع فى المدى القصير أن تكون أوروبا قادرة على استبدال إمدادات الغاز الروسى بالكامل من دول أخرى، مع انخفاض مرونة عرض إنتاج الولايات المتحدة والنرويج وأستراليا، وعدم توافر تسهيلات التصدير والاستقبال وسفن ناقلات الغاز بالقدر الكافى، وحتى اللجوء إلى كبار المصدرين مثل قطر اعترضه ارتباط قطر فى الوقت الراهن بعقود توريد مع كبار المستوردين فى آسيا، وفى ذات الوقت فقد امتنعت دولة مثل ألمانيا عن إبرام اتفاقات طويلة الأجل مع قطر لتوريد الغاز، الأمر الذى ألقى بظلاله على الموقف.
من جهة أخرى تحركت أوروبا جنوبا للاستفادة من إمكانات تصدير الغاز فى منطقة شرق المتوسط، كما سعت لتعزيز التعاون مع الجزائر كأحد كبار مصدرى الغاز، كما تجرى دراسة لإقامة خط أنابيب من نيجيريا إلى ساحل البحر المتوسط فى الجزائر أو المغرب، لكن كل تلك الجهود لا يتوقع أن تأتى بثمارها على الفور فى المدى القصير، ولا أن تعوض القدر الضخم من إمدادات الغاز الروسى المنتظم الذى باتت أوروبا مهددة بفقدانه مع توالى التصعيد فى مواجهة روسيا.
• • •
برغم تداعيات الأزمة الأوكرانية إلا أن الولايات المتحدة تبدو أقل خسارة من حلفائها الأوروبيين، فالفرصة باتت أمامها سانحة لاستنزاف مباشر لخصمها الروسى اللدود وحصاره، كما أن تدفقات الأسلحة إلى أوكرانيا وإعادة رسم الخطط العسكرية للناتو فى أوروبا، أعادت الحيوية إلى نشاط المجمع العسكرى الصناعى الأمريكى، وحتى ارتفاع الأسعار العالمية للغاز فقد حقق مردودا إيجابيا على الولايات المتحدة التى تعد من أكبر مصدرى الغاز فى العالم، بل وتفيد بعض التقارير إلى تطلعها لاقتناص حصة تسويقية كبرى من سوق الغاز الأوروبى فى الفترة القادمة.
وهكذا يبدو أن مسألة تأمين مصادر الطاقة للقارة الأوروبية ستظل على الدوام الشغل الشاغل لها، وبعد أن بينت الأزمة أن الجميع دون استثناء بما فيهم روسيا قد دفع الثمن، إلا أن أوروبا يبدو أنها هى من دفع وسيدفع الثمن الأكبر.