بعد أن هدأت النفوس قليلاً.. فإن السؤال يبقى: كارثة محطة مصر هل هى مجرد حادث تسبب فيه «إهمال وتسيب» أم «مؤامرة دنيئة مدبرة».؟!.. فبالتأكيد لا أحد يريد أن يزج بنفسه فى تفاصيل ما تحمله هذه «الكارثة» التى تعلق بها علامات استفهام عدة تميل إلى وصفها بأنها «مدبرة» حتى ولو كانت نتيجة «إهمال».. فالكارثة وقعت بعد أقل من 48 ساعة من انعقاد قمة شرم الشيخ العربية الأوروبية!!
غير أن بياناً أصدره النائب العام كشف عن عدة ملاحظات: الأولى أن تقرير الأدلة الجنائية حول الجرار بعد أن «غادره السائق»، أفاد بوجود ذراع التشغيل للقاطرة على السرعة الثامنة، التى تعادل 120 كيلومتراً فى الساعة.. والثانية أن التقرير أثبت عدم وجود آثار أو مخلفات تشير إلى استخدام عبوات مفرقعة بموقع الحادث.. وأن سائق الجرار انفرد دون بقية المتهمين بوجود آثار إيجابية لـ«مخدر الاستروكس» المدرج بالجدول الأول لقانون المخدرات.
أيضاً فإن نظرة سريعة فى «ملف خدمة» علاء فتحى محمد أبوالغار «سائق الجرار» تكفى للتأكد من أنه ليس هو «السبب الحقيقى» فيما جرى لهؤلاء الشهداء ولعشرات غيرهم من أسرهم، فـ«القاتل الحقيقى» هو من أوكل «مدمناً للمخدرات» لا يعى ما حوله فى أن يكون مسئولاً عن أرواح مئات الركاب الأبرياء، فلم تكن هذه الكارثة الأولى له، إذ كان قد تسبب فى انقلاب جرار آخر فى عام 2007 لم يسفر عن إصابات أو وفيات. «الملف» يفضح جرائم عدة لمسئول رفع راية «الإهمال واللامبالاة والتسيب إن لم تكن هناك شبهة تدبير مؤامرة..!»، فإذا افترضنا «إهماله ولا مبالاته» فإنه «مدان».. فكل ما كان يشغله فقط هو أن يتضمن جدول رحلات القطارات سطراً يؤكد أن رحلة «جرار القطار رقم 2301» قد بدأت فى موعدها دون أن يتيقن إلى أى جهة سيصل إليها وهو يقوده سائق مدمن للمخدرات لا يعى من أمره شيئاً -خاصة أنه سبق أن جرى إيقافه عن العمل لمدة 6 أشهر كاملة بسبب إدمانه ليعود بعدها ليقود «كارثة» تحققت وأدمت قلوبنا جميعاً ولن تتلاشى مشاهدها البشعة من أذهاننا لمدة زمنية طويلة..!- بقرار أصدره «مجهول» لم يجر الكشف عن اسمه حتى الآن..!
وإذا افترضنا أن هذا المسئول «متآمر» فقد نجح مع شركاء له فى تدبير هذه المؤامرة البشعة وربما راح بعدها يفتش فى جميع الصحف الصادرة فى اليوم التالى ليطمئن أن اسمه أو أسماء شركائه لم ترد بها، وهو ما يستوجب الكشف عن شخصيته لتجرى محاسبته وشركائه على هذه الجريمة الدنيئة.
هى مجرد ثوان فقط قرر خلالها «جرار القطار» أن ينتحر -إن كان قد انتحر بالفعل- احتجاجاً على ذلك الإهمال الذى يعامله به مسئولو السكة الحديد، استهتاراً بحياة مواطنين «غلابة» ليكتسب بعدها 22 ضحية منهم لقب «الشهيد» -بعد استشهاد مصابين آخرين، بينهما أحد المسعفين يوم الجمعة الماضى إثر إصابته بحروق غطت 85% من جسده- بينما يلحق بأسماء نحو 40 مصاباً دعاء «اللهم اشفه» بعد أن تحول «رصيف نمرة 6» إلى بركان من النيران.!
أطفال قد تيتموا وحُرموا جميعاً من رؤية الأب والعائل.. أمهات ترملت أو ثُكلت أو حُرمن من الزوج ورب الأسرة.. آباء فقدوا أبناءهم، كما سبق أن حرمت عشرات من الأسر قبل عدة أعوام من عائلها وقت أن «شويت أجساد غلابة» آخرين فى قطار الصعيد عام 2006، الذى يعد الأكبر والأبشع فى تاريخ السكك الحديدية بمصر، ولحق بهم عشرات الضحايا فى حوادث متلاحقة بسبب جنون قطارات جرى إهمالها لعشرات السنين، بعد أن كان التاريخ قد أقر أنها كانت الثانية فى العالم إلا أنها قد خرجت من القائمة ولم تعد حتى الآن.
كان لا بد أن يسقط ضحايا.. ويدفع أبرياء الثمن لنرى إلى أى مدى انزلقنا بل وغرقنا فى بحور من «التواكل»، وأصبحت كل تحركاتنا لا تعدو إلا أن تكون مجرد رد فعل عقب كل كارثة، تحكمه عوامل حماس سرعان ما يفتر ويخبو لينتهى تماماً ليشتعل مجدداً عند الكارثة المقبلة.. ولم لا؟ فنحن اعتدنا ذلك بدرجة بات معها الأمر جزءاً من ثقافتنا أو بمعنى آخر: إحدى مفردات حياتنا اليومية!
فمن جديد عادت قطارات السكك الحديدية لتصدم الرأى العام سواء باصطدامها الدموى بعد أن تثور على قضبانها.. وتخرج عن طوعها أو باحتراقها لتهدد كل من يفكر يوماً فى أن يكون ضمن قائمة مستخدمى القطارات.. وإذا جازف واستقل قطاراً فعليه أن يكتب وصيته أولاً!!
بعد كل حادث يخرج مسئول ليبعد شبهة الإهمال عن قيادات الهيئة، فـ«الهيئة ومسئولوها وقياداتها» أبرياء تماماً.. فـ«حالة القطارات جيدة للغاية.. وقطع الغيار متوافرة.. وعمليات الصيانة الدورية لها تجرى فى مواعيدها تماماً فكل شىء على أكمل وجه».. وبالتالى فليس هناك أدنى مسئولية على قيادات الهيئة الذين يتصفحون الصحف اليومية وهم يرتشفون قهوة الصباح بحثاً عن صورهم التى تزين تصريحاتهم حول تلك الخطط التى بدأوا تطبيقها لتطوير الخدمة والحفاظ على حياة الركاب!!.. لينتهى كل شىء مؤقتاً ليتجدد السيناريو فى الحادث المقبل!!
ليست الكلمات السابقة مجرد «جلد» لمسئولى الهيئة الذين يؤكدون دوماً اتخاذهم كامل الإجراءات الواجبة، والدليل على ذلك أن مسئولاً بالهيئة أكد فى تصريحات نشرها «موقع جريدة الوطن» صباح الأحد الماضى، ليؤكد أنه لا تهاون فى إجراء تحاليل للإدمان على سائقى القطارات بشكل خاص، لأنهم مسئولون عن أرواح بالقطارات التى يقودونها، وأنه لا يوجد أى تلاعب فى نتائج هذه التحاليل، مشيراً إلى أن هناك حالات ثبت تعاطيها لمواد مخدرة وتم تطبيق لائحة جزاءات السكة الحديد عليها، حيث إنه لا يتم التساهل معها إطلاقاً حفاظاً على العمل بمنظومة السكة الحديد.
وإذا كان ما يتشدق به هذا المسئول صحيحاً فلماذا عاد ليعلن: «أن نحو 4500 سائق قطار سيخضعون لتحليل المخدرات وكشف طبى ونفسى أول أبريل المقبل»، مشيراً إلى أن هناك عقوبات رادعة تصل للفصل النهائى من العمل حال ثبوت نتائج إيجابية بين السائقين لتعاطى المخدرات، فكيف عاد مدمن «استروكس» للعمل بعد إيقافه؟!!... وهو ما يشير -حتى ولو من بعيد- إلى شبهة التعمد..!
فى النهاية فإن هناك اعتقاداً شبه راسخ بأن كارثة محطة مصر أكبر من أن تكون بسبب مدمن أو مهمل بكثير.. ولك يا أحلى اسم فى الوجود ولمواطنيك السلامة.
نقلًا عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع