بقلم : عبدالعظيم درويش
أن تتهاون فى أداء دورك المكلف به يعنى اعترافاً واضحاً وصريحاً بتنازلك عن موقعك الذى تشغله، مما يفرض عليك أن تهجره.. فما يحدث فى «سوق السيارات» منذ فترة ليست طويلة أمر أشبه بـ«حرب تكسير العظام» بين شباب نظموا حملة «خليها تصدى زيرو جمارك» ورابطة تجار السيارات، بينما اكتفت أجهزة الدولة الرقابية المختلفة بموقف «المتفرج» بصورة جاءت أشبه بـ«طاقم حكام» لمباراة لكرة القدم هجروا مواقعهم المكلفين بالتزامها لإدارة المباراة وضبط سيرها ضماناً لانتظامها وانضموا إلى جمهور المشاهدين فى المدرجات ليشجع كل منهم فريقه..!!
لدينا ترسانة من القوانين.. وتمتلك الدولة العديد من أدواتها.. وجهاز لحماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية.. وآخر لحماية المستهلك.. ورقابة تابعة لوزارة التموين.. وأخرى للرقابة الإدارية، وخامسة للصناعة، غير أن جميعها التزمت الصمت -«فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ»-انتظاراً لانتهاء معركة «النفس الطويل» التى تدور منذ مطلع يناير الماضى فى السوق المحلية، كما ولو كان ليس هناك «رجل رشيد» يتدخل لفض هذه المعركة التى تدور بلا هوادة وستترك بالتأكيد آثارها على الاقتصاد الوطنى.
لا أحد يجادل فى أن كل طرف من طرفى هذه الحرب يسعى جاهداً للخروج منها منتصراً.. فـ«جمهور خليها تصدى» يستهدف تخفيض أسعار السيارات إلى أقصى درجة ممكنة، باعتبار أن «اتفاقية إلغاء الرسوم الجمركية» على السيارات الأوروبية كفيل بتحقيق ذلك، بينما يصر التجار وأصحاب التوكيلات على فرض كلمتهم على الجميع دون منازع، والاحتفاظ بمكاسبهم التى بالغوا فى تقديرها بدرجة كبيرة خلال الفترة الماضية التى شهدت فيها السيارات ما يشبه «مزاداً فقد اتزانه كلياً» دون أن يلتفت إلى أن البيع بـ«سعر عادل» يحقق مصلحة «الوكيل والمستهلك»، فضلاً عن تشجيع الاستثمار فى صناعة السيارات، لنبدأها بداية حقيقية لتنضم إلى غيرها من الصناعات لتصبح رافداً جديداً لتنمية الدخل القومى وتوفير فرص العمل المنتجة لشباب الحرفيين والخريجين الذين لا يزال جزء كبير منهم بـ«شحم الفابريكة»..!
اللافت للنظر فى هذه القضية أن لا أحد يلتقى على ذات الأرض التى يقف عليها الطرف الآخر، كما لو كانا لا يرغبان أساساً فى تفكيك هذه الأزمة وإنهائها، بل إن الطرفين تماديا كثيراً فى إدارتها بأسلوب يقترب من نظرية «معجون الأسنان» -التى اكتسب المواطنون خبرة واضحة خلال 18 يوماً ظلوا خلالها فى ميدان التحرير من 25 يناير 2011 إلى أن «خلعوا رأس الدولة»- فكل «ضغطة» تحقق مكسباً، فى حين أن «أصحاب التوكيلات» أبدلوا مواقعهم مع من كان يسكن وقتها «قصر الاتحادية» وراهنوا بذات رهانه على «عدم قدرة» هؤلاء المستهلكين على الصبر شهراً وثلاثة حتى يُجبر التجار على تخفيض الأسعار، ليظل الوضع على ما هو عليه انتظاراً لصاحب «النفس الطويل»، فى حين أنه يمكن إنهاء «الأزمة» بشكل يسير إذا توافرت الشفافية بدلاً من تمترس التجار خلف العناد ومحاولة بث روح اليأس داخل نفوس المستهلكين، على حين أن «تتبع التكاليف الحقيقية لاستيراد السيارات» منذ الوصول للجمارك وحتى تحديد سعرها النهائى يعد مطلباً ضرورياً خلال المرحلة الراهنة يمكن البناء عليه للاتفاق حول «سعر عادل للبيع»، وهو أمر من السهل على وزارة المالية -التى تتبعها مصلحة الجمارك- إعلانه بعد إضافة تكلفة نقل السيارات من الميناء إلى الوكيل، فضلاً عن تكلفة قطع الغيار، وأرباح التاجر، وقيمة الضريبة المضافة وغيرها من التكاليف من أجور عمال وموظفى الوكالات والمعارض والكهرباء وغيرها.. إلا أن وزارة المالية التزمت الصمت حتى الآن!!
بالتأكيد فإن الوصول إلى سعر عادل لبيع السيارة أمر منصف للطرفين، غير أنه يبدو أن الوصول إلى هذا الهدف أمر صعب حتى الآن -على الأقل- بالرغم من أن مرور الوقت يُحسب لصالح أعضاء الحملة، نظراً لحالة الركود التى تعانى منها السوق وتؤدى إلى تحمل الوكالات خسائر بملايين الجنيهات، إلى جانب اقتراب موسم طرح الموديلات الجديدة وهو ما دفعهم إلى تخفيض جزئى من الأسعار.. غير أن أعضاء الحملة يرصدون مبالغات واضحة فى إصرار التجار على تحقيق هامش ربح كبير، إضافة إلى ما يحققونه من مكاسب كبيرة من أعمال الصيانة الدورية للسيارات وهو ما أدى إلى أن أسعار السيارات بمصر أصبحت الأعلى عالمياً.. ولأن الأزمة لا تزال دائرة - ويبدو أنها ستستمر لفترة طويلة بعض الشىء- فإن طرفين جديدين قد دخلا إلى الساحة ليقف كل منهما إلى جانب أحد الطرفين الأساسيين لـ«الأزمة»، إذ يرى ذلك المقبل الجديد «خبير جمارك» أنه يمكن للفرد استيراد السيارة بنفسه، إلا أنه سيتحمل ما يتراوح ما بين 800 إلى 1000 دولار زيادة كمصاريف للشحن، إضافة إلى 12% زيادة تمثل عمولة الوكيل «ضمان وخدمات ما بعد البيع»، رغم أن السعر الذى يتعامل عليه الفرد جمركياً سيكون نفس السعر الذى يطبق على المستوردين، إلى جانب مشاكل إدارية أخرى لن يستطيع المستهلك مواجهتها تتعلق بـ«شهادة معينة» قاصرة على الشركات أو الوكلاء فقط..!
من جانب الطرف الآخر فإن «تجربة» جديدة بدأت فى التطبيق فى محافظة المنوفية من جانب بعض المستهلكين إذ تشارك مجموعة منهم فى جمع أموال وتكليف أحدهم بالسفر إلى دول «زيرو جمارك» لاستيراد سيارات تأتى باسم كل من شارك فى هذه المجموعات، بما يضمن الوصول إلى سعر أقل بكثير مما تعرضه الوكالات بالداخل.
ولأن المواطن اعتاد دائماً أن يكون «سجيناً للاختيار بين السيئ والأسوأ» -منذ ثمانينات القرن الماضى عندما كان يشكو من انتشار الفساد «بأننا أفضل من دول عدة أكثر فساداً»- فإن أصواتاً بدأت تعلو لتحميله مسئولية الإضرار بالاقتصاد الوطنى على المديين القصير والطويل، باعتبار أن ركود سوق السيارات سيصيب الاقتصاد بأضرار كبيرة.. دون أن تشير هذه الأصوات من قريب أو بعيد إلى مسئولية التجار فى الوصول إلى هذه النتيجة لإصرارهم على تحقيق أكبر مكسب لهم دون وجه حق..!
بقى شىء أخير يتعلق بمؤشر أن «حملة خليها تصدى» بدأت تثمر لصالح المستهلك بالفعل، وهو ما دفع «جمعية مواطنون ضد الغلاء» إلى إعلان اعتزامها إطلاق مبادرة شعبية جديدة، لاستيراد السيارات الأوروبية، والاستفادة من الإعفاء الجمركى من خلال تجميع مجموعة من المواطنين الراغبين فى الاستيراد للإقلال من تكلفة النقل البحرى باعتبار أنه لا يوجد مانع قانونى يعيق ذلك.
وفى النهاية فإنه من المنطقى أن يرحب كل مواطن بالانضمام إلى أى مبادرة إيجابية إذا كانت تستهدف تخفيف المعاناة عنه وتيسير سبل الحياة الكريمة عليه وتحسين معيشته.. فإلى متى ستظل أجهزة الدولة الرقابية تتظاهر بأنها «من بنها»؟!! ولك يا أحلى اسم فى الوجود ولمواطنيك «منتجين ومستهلكين» ولاقتصادك السلامة دائماً.
نقلًا عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع