الحديث عن كرة القدم «قدس الأقداس» هو فى حقيقته أشبه باقتحام «عش الدبابير» فى أبسط الحالات إن لم يكن أقرب إلى المرور فى حقل ألغام «معصوب العينين»، حيث لا يخرج منه ذلك «المتهور» الذى يدخله إلا أشلاء تتولى «ورثته» تجميعها بصعوبة بالغة، بعد أن يكون قد ناله الكثير من «سهام التعصب والغضب» وبخاصة إذا كان الحديث عن «الساحرة المستديرة» يتناول جانباً سلبياً فيها!
وإذا كان الفيلسوف الاقتصادى الألمانى «كارل ماركس» عندما كتب المقطع الأشهر «الدين أفيون الشعوب» فى عام 1843 كجزء من مقدمة كتاب انتقد فيه «فلسفة الحق» للفيلسوف «فريدريش هيجل» لم يكن يدرى أنه بعد ما يقرب من 175 عاماً سيصبح «المونديال» أفيون المصريين، يهون كل شىء أمامه حتى ولو كان «دخل الوطن من العملة الصعبة»..!.
وفق اعتقاد «ماركس» فإن للدين بعض الوظائف العملية فى المجتمع تشبه وظيفة «الأفيون» بالنسبة للمريض أو المصاب: فهو يقلل من معاناة الناس المباشرة ويزودهم بأوهام طيبة، ولكنه يقلل أيضاً من طاقتهم واستعدادهم لمواجهة الحياة الجائرة، عديمة القلب والروح التى أجبرتهم الرأسمالية أن يعيشوها، فإن الواقع يؤكد أن ما يحدث فى المجتمع المصرى منذ إعلان وصول فريقنا القومى إلى المونديال بعد 28 عاماً من الغياب منذ المرة الأولى والوحيدة التى شاركنا فيها عام 1990 أن هذا المونديال قد أصبح «أفيون» معظمنا لتغييب عقولنا ولنتخفى وراءه حتى لا نواجه متاعبنا الاقتصادية وبحثاً عن تحقيق انتصار أى انتصار حتى ولو كان بأقدامنا بدلاً من عقولنا.
ورغم متاعبنا خلال محاولاتنا لإصلاح ما أفسدته السنوات الماضية فى اقتصادنا فإن لهفتنا على تحقيق ذلك الانتصار الوقتى «الوصول للمونديال» قد دفعتنا إلى المقامرة والتضحية بجزء غير قليل من الاحتياطى النقدى الأجنبى بالبنك المركزى.. رغم متاعبنا الشديدة فى تجميعه!
منذ شهر أكتوبر الماضى وقت إعلان التحاقنا بـ«قطار المونديال» انطلق «ماراثون» عنيف تنافست فيه معظم الشركات والمؤسسات المالية -إن لم يكن جميعها- على تشجيع المواطن على إهدار ملايين الدولارات.. فالبنوك بدأت حملات دعائية لدعوة المواطن للإفراط فى استخدام كروت الائتمان «Credit Cards».. ودخلت شركات المياه الغازية وغيرها من شركات الإنتاج والاتصالات سوق المنافسة لا لشىء إلا لإيهام المواطن بأنه كلما أسرف فى الإنفاق فإن أمامه فرصة للفوز برحلة إلى روسيا لمشاهدة مباريات المونديال، دون أى اعتبار لتلك الملايين من الدولارات التى سيجرى إهدارها فى هذه الرحلة.
فى سباقها المحموم لدفع المواطنين إلى إهدار مدخراتهم وبالتالى إحراق العملة الصعبة بدأت ما يقرب من 30 شركة سياحة مصرية تنظيم برامج للمشجعين، مقسمة لشرائح سعرية تتراوح فى المتوسط ما بين 38 ألفاً و80 ألفاً لتناسب جميع أطياف المجتمع «وفق وجهة نظر القائمين عليها»، إلى جانب أن هناك بعض البرامج المطروحة تشمل حضور مباراة واحدة فقط..!!
ما حدث أخيراً فيما يتعلق بالمونديال ليس غريباً عما كان يحدث على الساحة الكروية منذ سنوات -ولا يزال- وهو أمر لا يمكن السكوت عنه على الرغم من أنه تكرار لممارسات سابقة وكثيرة غير أن الظروف الاقتصادية التى يمر بها المجتمع حالياً وتنعكس سلباً على المواطن تجعل السكوت عما يحدث حالياً «جريمة» فى حق الوطن والمواطن.
ففى الوقت الذى ينكمش فيه الجنيه ويتراجع أمام الدولار -الذى أصبح أقرب إلى الشقيق الرابع للغول والعنقاء والخل الوفى- تتسابق أكبر الأندية الرياضية على إحراق مئات الآلاف منه شهرياً من خلال «ماراثون» استقدام مدربين أجانب ولاعبين من الخارج يحددون مرتباتهم الشهرية فى مزاد محموم يستقر على رقم تسبقه على الأقل ثلاثة أو أربعة أصفار بالدولار!! وهو ما يقترب من عملية شراء الدرجات العلمية «الدكتوراه» من جامعات خارجية استقرت فى «بير السلم» فى بلاد «الخواجات».. ولم يكن استقدام المدربين الأجانب قضية تتعلق بتعويض «سوء مستوى المدربين المصريين» -لا سمح الله- الذين يمكن أن يكون من بينهم من هو أفضل من المدرب «الخواجة»، ولكنها فى حقيقتها قضية «وجاهة اجتماعية» لتلك الأندية فى سباقها للحصول على درع الدورى أو الكأس محلياً -حتى ولو كان ذلك بأقدام الغير- فى مباريات تكفى أعداد المترددين من جمهور مشجعيها بعدها على عيادات الأطباء للعلاج من «ضغط الدم» بسببها للحكم على مستواها الفنى!!.
لم تكتف الأندية الرياضية بهذا الإهدار لعملات أجنبية نحن فى أمس الحاجة إليها، بل إن الأمر طال إلى حد إقامة معسكرات للتدريب فى الدول الأوروبية المختلفة، كما تقتضى معايير «السرية والتكتم»، يشارك فيها بالتأكيد أعضاء الفريق الأساسيون والاحتياطيون والإداريون والأطباء والمترجمون وغيرهم من أصحاب الحظ، وإن لم تصل المسألة حتى الآن إلى اصطحاب المشجعين أيضاً، ولا أستبعد حدوث ذلك، كما ولو كانت إقامة مثل هذه المعسكرات محلياً ستتيح فرصة ذهبية لـ«الأعداء» من الفريق الآخر للاطلاع على خطة التدريب وكشف أسرارها!!.
كل هذا يحدث فى الوقت الذى تسعى فيه الدولة جاهدة لتدبير موارد جديدة من العملات الأجنبية اللازمة لتنفيذ خطة التنمية وتوجيهها إلى وجهتها الصحيحة بدلاً من إهدارها من أجل مباراة لكرة القدم حتى ولو كانت ضمن المونديال..!!
وقبل أن يسارع البعض بالقول إن ما تحرقه الأندية من «دولارات» هى مساهمات وتبرعات من رجال الأعمال لأنديتهم وليست من بين موازنة الدولة، أقول إن الحرص على دولارات المواطنين قد دفع الدولة ولا يزال إلى مناشدة القادرين عدم السفر للخارج خلال الصيف للسياحة أو حتى أداء فريضة الحج أو العمرة أكثر من مرة توفيراً للعملة الصعبة، وهى أيضاً ليست من أموال موازنة الدولة بالطبع، الأمر يستحق وقفة ومراجعة والبحث عن وسيلة أخرى لـ«إحراق البخور» فى قدس الأقداس بدلاً من «إحراق الدولارات» من أجل مباراة حتى ولو كانت فى المونديال الذى أصبح بالفعل «أفيون المصريين».!!
نقلا عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع