بقلم - مشرق عباس
ليس سراً أن وسائل الإعلام العراقية لم تنجح على رغم حجم الأموال التي أهدرت فيها، وسنوات التجريب والصراع التي من المفترض أنها راكمت خبراتها، في إنتاج تجربة إعلامية قادرة على تجاوز حدود مكوناتها الاجتماعية ناهيك عن حدود البلد نفسه.
ومع الإعتراف بوجود بعض المحاولات الاستثنائية على مدى السنوات الماضية، فإن تلك المحاولات لم تُمنح الوقت والبيئة لتحقيق الهدف المنتظر، وانتهت إلى الإغلاق او التقليص، أو الاندماج في سرب المؤسسات الإعلامية الممثلة للأحزاب والطوائف والإنحيازات، والتي بدورها لم تسلك سلوكاً مهنياً واضحاً يتيح لها المنافسة إلا في إرضاء زعماء الأحزاب والقياديين فيها، وأخيراً قادة الجيوش الإلكترونية التابعين لها.
وإذا أخذنا في الحسبان أن العراق يمتلك خبرات إعلامية كفوءة، ومدربة في شكل صحيح تم نحتها بمواجهة سعار سياسي واضطراب أمني وارتباك اجتماعي متواصل، فإن الحديث عن العجز الإعلامي في العراق وما يثيره من إشكاليات على مستوى بناء الوعي وتكريس رؤية التعايش وتحفيز القدرات وتطويرها، يحيل إلى عوامل أخرى من بينها، غياب الناشر أو المستثمر المدرك لمديات الإعلام وأهدافه وألياته، فوسيلة الإعلام مشروع ملحق في الغالب بمشروعات سياسية وليست مشروعاً أصيلاً.
إن الانقطاع العراقي الطويل عن السوق العالمية وتجاربها خصوصاً على مستوى الترويج، وغياب ثقافة الإعلان لدى أصحاب المشاريع الاقتصادية العراقية، كان من أسباب الإعتماد المتواصل والمتصاعد لوسائل الإعلام على التمويل الحزبي، وزادت المشكلة مع توسع وسائل التواصل الاجتماعي واستيلائها على نسب كبيرة من الإعلانات الشحيحة أساساً.
لكن الغريب أن السوق العراقي نفسه الذي يعد أكبر سوق استهلاكي في المنطقة، بسبب حاجاته المتعددة، وغياب قوانين الرقابة فيه، لم يدفع الشركات العالمية الكبيرة إلى الترويج فيه، لتشكل بدورها عامل دعم يمكن أن يحرر الإعلام من سطوة المال الحزبي بنسب معينة. الأغرب أن تلك الدولة العراقية الملزمة دستورياً برعاية وسائل الإعلام لم تعر أهمية تذكر لتطبيق بند الإعلانات الملزم في عقود الشركات الكبيرة التي تدخل السوق العراقي على مستوى التجارة أو الاستثمار.
بمراجعة بعض الشركات الرئيسية في العالم في مجالات التكنولوجيا مثلاً، حيث السوق التنافسي على أشده، فانها تؤكد أن عقودها مع وكلائها في العراق تتضمن هامشاً للترويج الإعلاني، لكن هؤلاء يطلبون منحهم بضاعة بديلاً من هامش الترويج الإعلاني، لأن السوق العراقي لا يحتاج إلى ترويج!.
وبمراجعة بعض الشركات الاستثمارية سواء في مجالات النفط والغاز والإسكان والخدمات، التي أبرمت عقوداً مع الدولة ببلايين الدولارات، فإنها تؤكد أيضاً أن عقودها تلزمها بهوامش للإعلان والخدمات الاجتماعية، لكن المسؤولين في الوزارات يعتبرون هذا الهامش جزءاً من حصتهم في الصفقات، بمعنى أن تلك الشركات تدفع الأموال المخصصة للمؤسسات الإعلامية كرشى لوزراء ومدراء لتسهييل أعمالها!. هذا واقع حقيقي، ومن دون مواجهته في شكل صريح لا يمكن الحديث عن تجربة إعلامية عراقية رائدة، كما لا يمكن الحديث عن تحقيق وسائل الإعلام المزيد من الاستقلالية عن الجهات السياسية التي تمثلها.
وفي هذا الشأن يجادل بعض الإعلاميين بأن رأس المال في العراق تحتكره الأحزاب، والحصول على هامش إعلاني مهما كان حجمه لا يمكن أن يحقق الاستقلالية النسبية المرجوة إلا من خلال الأذرع الاقتصادية لتلك الأحزاب نفسها، وقد يكون ذلك صحيحاً، لكن تمكن وسيلة الإعلام من تحقيق هامش تمويلي ذاتي وتطوير ذلك الهامش، سيمنحها وزناً حتى لدى الأحزاب الممولة أكثر من كونها دكاكين موسمية يتم إنعاشها أو تجميدها وفق مواعيد الانتخابات والصراعات السياسية الكبرى.
إن المطلوب في هذه اللحظة، أن يضغط الوسط الإعلامي العراقي، لتطبيق قوانين حماية المستهلك بالنسبة للبضائع المستوردة وأن ينال السوق الإعلاني العراقي حصته من هذه القوانين، بما يشمل حتى وضع الشروط للإعلانات الموجهة إلى العراق، كما أن عليه الضغط على الدولة لمراقبة وتطبيق الشروط الترويجية في العقود المبرمة مع الشركات العاملة في العراق، وكذلك مع المصارف، والشركات الخدمية والمصانع المحلية، ناهيك عن مؤسسات الدولة نفسها التي ألغت نشاط الإعلانات من خريطتها.
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع