بقلم: د. محمود محيي الدين
يُنسب إلى الفيلسوف الصيني كونفوشيوس مقولة مفادها أنه «عندما تفقد الكلمات معناها يفقد الناس حريتهم». وفي تفسير لهذه المقولة أن تضليل الناس بكلمات متضاربة من شأنه أن يُفقدهم الثقة فيما يدور حولهم وفي علاقاتهم بعضهم ببعض، ويمنعهم من اتخاذ ما يناسبهم من قرارات لتدبير أمورهم، بما يُحدث اضطراباً وفوضى.
وفي مجالات الاقتصاد والاستثمار وإدارة المشروعات تُعقد المؤتمرات والندوات والاجتماعات فتتردد عبارات يكررها المتحدثون ربما لإظهار معرفة أو استعراض خبرة، أو تكرار لما يقوله آخرون ينقلون عنهم دون بينة أو حسن إدراك للسياق الذي تُذكر فيه مثل هذه العبارات المرسلة والتعبيرات الطنانة.
وتضم القائمة أمثلة كثيرة لمثل هذه التعبيرات نختار أربعة من أشهرها في عالم الاقتصاد والمال، أولها «التفكير خارج الصندوق»، وهي ترجمة لعبارة «thinking outside the box»، ويلقيها المتحدث مظهراً الدعوة للابتكار والتجديد والتمرد على ما درج استخدامه من أساليب. ثم يُفاجأ المستمع بأن ما يذكره المتحدث بعد هذه العبارة لا يتجاوز كثيراً ما هو مألوف، فلا تجديد فيه ولا تطوير عما هو معروف. وفي السياسات الاقتصادية قد ترى أنه لم يُحسن تنفيذ الإجراءات المتعارف عليها لعلاج مشكلة معينة، ولم توضع في إطارها الزمني المناسب، ولم يتم التنسيق بينها وبين غيرها من إجراءات، ولم توضح للناس بعناية فتفشل. فالعيب إذن ليس في الصندوق وما فيه، ولكن في قلة حيلة القائمين على السياسة الاقتصادية. ولن يفيد هؤلاء الاستعانة بما هو خارج الصندوق شيئاً، إذا لم يطوروا هم من مهاراتهم وكفاءة تعاملهم مع أدوات السياسة التقليدية قبل المغامرة بما يعتقدون أنه جديد ومن خارج الصندوق.
والعبارة الثانية التي تتردد كثيراً على الألسنة هي «تساقط ثمار النمو»، وهي ترجمة لتعبير «trickle down effect»، وقد ظنها البعض خطأً أنها استراتيجية اقتصادية ناجعة تقوم على التركيز في بعض المناطق والقطاعات فينتقل أثر النمو منها إلى سواها. وقد وصف الاقتصادي الشهير جون كينيث غالبريث هذه الجملة غير الموفقة بأنها كمن يوصي بإطعام حصان بأكثر مما يكفيه ليتساقط الطعام من حوله فتلتقطه الطيور الهائمة. فالنمو لا يسقط ثماراً على أحد تلقائياً، بل هي سياسات تصمَّم من البداية وتعتمد على الاستثمار في البنية الأساسية التي تربط أطراف الاقتصاد وتتدفق من خلالها أنشطته، والارتقاء بجودة رأس المال البشري من خلال التعليم والتدريب والرعاية الصحية، وإتاحة الفرص العادلة للجميع حتى يعود النمو بالنفع على عموم الناس، وإلا تركزت عائداته أبداً ولن تتساقط إلا على ذوي الحظ أو الحظوة.
ومما يردده بعض المتحدثين عبارة ثالثة وهي «التقاط الثمار القريبة»، كترجمة لتعبير «low - hanging fruit». وهي من التعبيرات التي قد تضلل أولويات العمل بجعلها منصبّة على أهداف قصيرة الأجل، على حساب الجهود الطموحة التي تسعى لتحقيق أهداف أطول أجلاً وأكثر نفعاً واستدامة. من الواجب التوازن بين الاحتياجات العاجلة أو إظهار القدرة على تحقيق النتائج والإنجازات كسباً للثقة، ولكن يجب ألا يأتي هذا خصماً من القدرة على تحقيق التقدم والتنمية المستدامة. وقد تابعنا، في ظل اعتياد كثير من الناس استعجال النتائج، أنه إذا ما ذُكرت برامج التنمية المستدامة التي أعلنتها الأمم المتحدة في عام 2015 على أن تنتهي في عام 2030، جاءت ردود أفعال البعض بأنها بعيدة المدى رغم أنها لا تتجاوز ثلاث خطط خمسية فقط، أو خمسة برامج مالية قوام كل منها ثلاث سنوات؛ وقد مر من مدة تنفيذها حتى اليوم ما يقترب من ثلث الفترة المرصودة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة ومنها القضاء التام على الفقر المدقع وسوء التغذية والجوع، والارتقاء بالتعليم والصحة والبيئة حول العالم. فهل حقق المتعلقون بالثمار القريبة ما يسعون إليه؟
ورابع التعبيرات المشهورة التي تتكرر بمناسبة ومن دون مناسبة «الحل المربح لكل الأطراف» وهي ترجمة لتعبير «win win solution». ولا يتحقق مثل هذا الحل إلا في وضع لا يمكن أن تتحقق فيه زيادة منفعة طرف إلا بخسارة طرف آخر، أي أن التخلي عن هذا الوضع سيحول الأمر إلى ما يُطلق عليها مباراة صفرية النتائج، فمكسب طرف هو خسارة للطرف الآخر مثل ما يحدث في مباريات كرة القدم. ويورد الاقتصاديان ديكزيت ونيلبوف في كتابيهما المهم عن التفكير الاستراتيجي، حالات متعددة لمباريات غير صفرية النتائج منها تفاوض العمال مع أرباب العمل لتعديل الأجور بما يمنع حالات الإضراب التي قد تُنزل الضرر بالطرفين، ففي اتفاقهما درء لخسارة الطرفين، وإن كان المكسب المتحقق من الاتفاق قد لا يكون متكافئاً بالضرورة. وكثيراً ما يُطلق تعبير الحل المُربح لكل الأطراف في غير موضعه، ففي أحوال كثيرة قد يكون هناك طرف غائب لا يدخل في اعتبار المتفاوضين أو أطراف الصفقات وقد يتحمل هذا الطرف تكاليف وأعباء دون نفع يُذكر. فقد تُجرى صفقات ومعاملات تجارية يربح أطرافها مالياً ولكن تهدر فيها البيئة وتسبب التلوث فيتحمل المجتمع تكاليف مكافحة التلوث والرعاية الصحية. فأين هذا الحل المزعوم المربح للجميع؟
ولنا فيما قام به أحمد تيمور باشا في كتابه المصنف عن التعبيرات والأمثال العامية، سابقة طيبة في أنه لم يتوقف عند الجمع والتبويب، بل قام بالشرح والتعليق وبقدر من المقارنة والتحقيق. إن مثل هذه التعبيرات المتواترة التي تتكرر على الألسنة في مجالات الاقتصاد والاستثمار قد تترتب عليها أضرار جمّة إذا ما أُخرجت عن سياقها أو إذا ما اعتُبرت خطأً أنها من خلاصة الخبرات والتجارب المفيدة، أو إذا أُطلقت على سبيل التعميم، وفي أفضل الأحوال يمكن معاملتها معاملة الأمثال العامية التي ينبغي وضعها في نصابها وألا تؤخذ مأخذ الجد إلا بعد اختبارها.