بقلم - محمود محيي الدين
في خلال السنوات الماضية، كانت تطورات الذكاء الاصطناعي تأتي في إطار تحليل متطلبات ما تُعرف بالثورة الصناعية الرابعة وآثارها، ولكن بعد تسارع تطبيقاته في التأثير المتزايد في مضامير السلم والحرب والتنمية والتدمير، انصب الاهتمام مؤخراً على الذكاء الاصطناعي كثورة غير مسبوقة الآثار في حد ذاتها. فقبل الذكاء الاصطناعي كانت الآلة مجرد معين على إنجاز العمل بتكرار مهام محددة بحجم أضخم وسرعة أكبر. أما بعد الذكاء الاصطناعي فقد اكتسبت الآلة قدرات على الإدراك والتعلم والتصرف محاكية البشر.
نحن بصدد نقلة نوعية من عمليات نمطية للميكنة والأتمتة بإعادة الإنتاج وزيادة الإنتاجية، إلى الارتقاء باستحداث مكونات وإنتاج مبتكرات واقتراح علاجات وسبل للتطوير.
ولا يتوقف نطاق تأثير الذكاء الاصطناعي عند سوق العمل؛ بل يمتد إلى الأمن والسياسة ونظم الحكم واختيار الحكام والثقافة العامة. وعرضتُ في مقال سابق أنَّ الخطر الأول -وفقاً للمنتدى الاقتصادي العالمي- هو المعلومات المضللة والكاذبة ودور الذكاء الاصطناعي فيها، بانتحال الصفات، وسرقة الهويات، والتلاعب في المعلومات، واختراق نظم اتخاذ القرار المؤثرة في الاقتصاد والسياسة والأمن والمجتمع.
كما عقَّد الذكاء الاصطناعي من حماية الأمن السيبراني ونظم المعلومات المتحكمة في مرافق حيوية، كالمياه والكهرباء والطاقة وقطاعات المال والنقل، وغيرها. وفي كتاب عن القوة في زمن الذكاء الاصطناعي، صدَّره مؤلفه بول شار، خبير الدفاع في «البنتاغون» الأميركي، بمقولتين: الأولى مقتبسة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: «الذكاء الاصطناعي هو المستقبل، ليس فقط لروسيا ولكن لكل البشرية. فهو يأتي بفرص عظيمة، وأيضاً بتهديدات يصعب التنبؤ بها. من سيقود هذا المضمار سيصبح حاكماً لهذا العالم»، والثانية من الرئيس الصيني، ونصها: «العلم والتكنولوجيا أصبحا ساحة المعركة للقوى العالمية المتنافسة».
وفي مجال الاقتصاد، تبارت التقارير والدراسات الدولية في استكشاف الآثار المرتقبة للذكاء الاصطناعي التي تكاد تُجمع على آثاره الإيجابية على زيادة الكفاءة الإنتاجية وتخفيض النفقات بما يزيد من معدلات النمو والثروات، مع تأثيرات سلبية على توزيع الدخول. وأصدر صندوق النقد الدولي في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي دراسة عن أثر الذكاء الاصطناعي على أسواق العمل. ومن نتائجها أن 60 في المائة من الوظائف في الاقتصادات المتقدمة متعرضة لتأثير الذكاء الاصطناعي، بينما كانت هذه النسبة 40 في المائة في الدول ذات الأسواق الناشئة، و26 في المائة في الدول الأقل دخلاً. أي أن الدول النامية أقل عرضة لمربكات الذكاء الاصطناعي بمنافعها ومثالبها. ووجدت الدراسة أنَّ التأثير الإيجابي، من خلال زيادة الإنتاجية، يكاد يتعادل مع التأثير السلبي على سوق العمل بتعرض وظائفه للاختفاء أو تناقص الطلب عليها.
والأمر يتوقف على مدى استعداد الدول للذكاء الاصطناعي وفقاً لأربعة عوامل تتمثل في البنية الأساسية الرقمية، ورأس المال البشري وسياسات التشغيل، والابتكار والاندماج الاقتصادي، والقواعد الرقابية والأخلاقية والحوكمة. وبتطبيق تصنيف قياسي لاستعدادات الذكاء الاصطناعي على 125 دولة، جاءت سنغافورة في المقدمة، ثم الولايات المتحدة والدنمارك واليابان وبريطانيا.
وفي تعليق على مصادر النمو المحتمل في الولايات المتحدة، لم يجد الاقتصادي روبرت هوبارد، رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين السابق للرئيس الأميركي، مصدراً للتفاؤل بالنمو في بلاده إلا من امتلاكها متطلبات الذكاء الاصطناعي. وهو ما يؤيده فيه الاقتصادي الحائز «نوبل» مايك سبنس في مقال مشترك نشرته مجلة «الشؤون الدولية» (فورين أفايرز) بأنَّ الذكاء الاصطناعي سيضيف 4 تريليونات دولار سنوياً للاقتصاد العالمي، بما يعادل الناتج المحلي الإجمالي لدولة بحجم ألمانيا، وأنَّ الولايات المتحدة ستجني ثماراً في زيادة إنتاجيتها بفضله مع نهاية هذا العقد، وبآثار إيجابية على جانب العرض تسهم في تخفيض التضخم. ومن الطريف أنَّ آخر مقالات هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، نُشرت في المجلة ذاتها في عدد شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2023، مع غراهام أليسون، وكان عن الجانب المظلم للذكاء الاصطناعي في سباق التسلح، وضرورة التعاون بين الولايات المتحدة والصين في منع قيام حرب عالمية ثالثة، بأسلحة أشد فتكاً ورعباً من القنبلة الذرية التي كان استعمالها في مواجهة اليابان آخر أعمال الدمار الشامل التي انتهت بها الحرب العالمية الثانية.
وتشير دراسة صندوق النقد الدولي إلى أنَّ المتعلمين تعليماً عالياً وذوي المهارة والأصغر سناً سيتمكنون من المناورة بالانتقال إلى فرص للعمل تستفيد من الفرص الإيجابية التي تتيحها ثورة الذكاء الاصطناعي، وأنَّ الضحايا سيكونون من الأقل تعلماً ومهارة والأكبر عمراً.
لا يوجد إلا طريق واحد لتسلكه بلدان الجنوب في تعاملها مع الذكاء الاصطناعي: وهو أن تكون في مقدمة الإلمام بمستحدثاته، واستغلال ابتكاراته في دفع التقدم وتحقيق أهداف التنمية، وعليها أن تتمكن من مستجداته للحفاظ على السلم، والدفاع عن مقدراتها.
وفي مقال تحت عنوان «الإقطاع الرقمي وسادة اقتصاد العالم الجديد»، نشرتُه على صفحات «الشرق الأوسط» الغرَّاء في شهر أكتوبر 2019، أشرت إلى أنَّ هناك ثلاثة أمور يمكن تبنِّيها في العالم العربي تحديداً، في إطار سياسة متكاملة للتنمية والتقدم في العصر الرقمي: الأمر الأول يتمثل في تطبيق سياسة متكاملة للبيانات وتأمينها وحماية حقوق ملكيتها، بما في ذلك حقوق الأفراد الأدبية والمالية عند استخدام بياناتهم، وتطوير نظام عام لحماية البيانات والرقابة عليها. الأمر الثاني، يتمثل في تطوير البنية الأساسية لتكنولوجيا المعلومات من شبكات ومنصات رقمية ووسائل حفظ البيانات وتأمينها، ودعم نطاقاتها الاستيعابية وسرعاتها باستثمارات ضخمة بالمشاركة بين القطاعين الخاص والحكومي. أما الأمر الثالث، وهو الأهم والأولى، فهو الاستثمار في البشر تعليماً وتدريباً وتوعية، بهدف إتقان علوم الذكاء الاصطناعي. من دون ذلك ستأتي وتنقضي ثورات صناعية وتكنولوجية الواحدة تلو الأخرى، كما حدث من قبل، فلا يكون نصيبنا منها إلا الجدل حول حصر عددها وتأريخ آثارها، في حين تنطلق الأمم لمقاصدها قدماً.