بقلم - د. محمود محيي الدين
عندما التقى الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ، ورئيس البنك الدولي روبرت مكنمارا، في بكين عام 1980، بعدما أصبحت الصين عضواً بالبنك الدولي، جرى حوار هام بينهما، بدأه مكنمارا بأن البنك الدولي الذي بدأ نشاطه في عام 1945 لن يكون دولياً حقاً إلا بعضوية الصين، التي حلت محل تايوان في مجلس إدارة البنك، وأنه يتطلع إلى علاقات متميزة بين الصين والبنك في مجالات التنمية. ولرائد تحديث الصين دينغ شياو بينغ مقولة عملية في مواجهة جمود أصحاب الآيديولوجيات الراكدة «بأنه لا يهم لون القط، أبيض أو أسود، طالما يصيد الفئران» وقد أكسبه هذا النهج العملي صفة البراغماتي الأكبر.
وفي حديثه مع رئيس البنك الدولي، وضع دينغ قاعدة تحتذى من 3 عناصر في التعامل مع المؤسسات الدولية؛ أولها، أنه في أي علاقة بين بلاده والبنك يجب أن تتقدم المعارف والأفكار في أهميتها على أي حجم من التمويل. ثانيها، أن بلاده لديها توجه حتمي نحو التحديث والتقدم، ولكن بالتعاون مع المؤسسة الدولية فنمو الصين سيكون أكبر وأسرع. ثالثها، عندما تناقش معه مكنمارا في اختيار ممثل البنك في بكين، ردّ عليه دينغ بأنه لا يهمه من أي بلد يأتي، قدر اهتمامه بأن يكون هو الأفضل لهذا العمل.
وكان رد فعل البنك، بقيادة مكنمارا، بقدر المسؤولية الكبرى، فوفقاً لما ذكره عالم الاجتماع عزرا فوغل في كتابه عن سيرة الزعيم الصيني، أرسل مكنمارا للصين طاقماً من 30 عضواً من الخبراء العتيدين في مجالات الاقتصاد والزراعة والهندسة والصحة والتعليم لدراسة أوضاع التنمية في الصين، وعمل معهم فريق مناظر بقيادة جوه رونجي، الذي أصبح لاحقاً رئيساً لحكومة بلاده. وما زال هذا الأسلوب في التعاون مع المؤسسات الدولية قائماً حتى يومنا، فدراسات رؤى 2030 التي أعدها البنك الدولي للصين في العقد الماضي خرجت للنور بتعاون فريق مناظر، ينسق له مركز بحوث التنمية الصيني.
أسوق ذلك للتأكيد على أسس جوهرية لتعاون البلدان النامية مع المؤسسات المالية والمنظمات الدولية، الذي لا تتحقق جدواه إلا إذا ما أسفر التعاون معها عن نتائج أفضل، وفي زمن أسرع عما يمكن تحقيقه من دونها.
وقد بات على المؤسسات المالية والمنظمات الدولية إدراك أن العالم قد بارح أوضاع الأربعينات التي شهدت ميلادها. ويبدو أنه كلما اقتربت من إدراك ما يترتب على هذا الواقع الجديد لعالم متعدد الأقطاب يعج بأزمات متعددة وممتدة، وبما يتطلبه ذلك من تطوير ومرونة وزيادة في قدراتها المعرفية والمالية، لجمتها معوقات وقوى تجذبها إلى ماضٍ ولى بترتيباته، التي صارت بالية بعدما فقدت فاعليتها وتأثيرها، إلا بما يدور في خيال العائشين في صوامع عزلتهم عن مستجدات عالم سريع التغير.
ففي دراسة حديثة لمؤسسة بروكينغز، قدّر الاقتصاديان عمار بتاتشاريا وهومي خاراس احتياجات التنمية المستدامة العاجلة بعد أزمتي «كورونا» وأوكرانيا بنحو 5.9 تريليون دولار سنوياً من الاستثمارات حتى عام 2030 مقارنة بنحو 2.9 تريليون دولار في عام 2019. تشمل هذه الاستثمارات نحو النصف للتوجه للعمل المناخي، بما في ذلك الاستثمارات الضخمة المطلوبة لقطاع الطاقة النظيفة وبنيته الأساسية. وفي حين أن أغلب هذه الاستثمارات يفترض أن تأتي من مصادر محلية، فالمطلوب لا يقل عن تريليون دولار من مصادر خارجية. يشكل هذا هوة كبيرة بين ما تقدمه بالفعل تلك المؤسسات التنموية الدولية وما هو مطلوب للتنمية المستدامة، خاصة مع زيادة أعداد من يعانون من الفقر المدقع، بما يتجاوز 70 مليون إنسان، قد يضاف إليهم 130 مليوناً آخرين، قبل 2030 بسبب الأزمات المناخية. وبهذا، قد تصل أرقام الفقراء فقراً مدقعاً إلى ما يزيد على 600 مليون إنسان، بما حدا ببعض المؤسسات البحثية المستقلة أن ترجح عودة مستويات الفقر لما كانت عليه في عام 2015 عند تدشين أهداف التنمية المستدامة.
ما زال أمام العالم 7 أعوام، نتطلع لأن تكون سماناً، بعد طول ما مر بنا من سنوات عجاف، لتحقيق أهداف التنمية، وأولها مكافحة الفقر. وفي تقرير حديث للأمم المتحدة عن تمويل التنمية، استعرض ملخصاً له نافيد حنيف، مساعد الأمين العام بإدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، يؤكد فيه على أهمية تجسير فجوة التمويل، على أن يكون ذلك مسانداً بجيل جديد من السياسات الصناعية لتحقيق التحول نحو الاقتصاد الأخضر، خاصة بعد زيادة الاستثمارات في الطاقة الجديدة والمتجددة لتجاوز استثمارات الطاقة الأحفورية لأول مرة. ويذكر التقرير أيضاً أهمية دفع التعاون الدولي لتمويل الاستثمارات المطلوبة للتنمية، من خلال محفز الاستدامة بمقدار 500 مليار دولار سنوياً، وتفعيل إصلاحات البناء المالي العالمي بتطوير مؤسسات تمويل التنمية لتقوم بالدور المنوط بها.
إذن تأتي المطالبات لتطوير القدرات المالية والفنية لمؤسسات التنمية الدولية من كل حدب وصوب، وأهمها ما يأتي بإلحاح من البلدان النامية، وقد ناقشت في مقالات سابقة في هذه الصحيفة الغراء كيف أصبح تمويل التنمية والعمل المناخي يعاني من عدم الكفاية وعدم الكفاءة وعدم العدالة. فهو لا يكفي متطلبات التنمية، فرغم وعود مقطوعة بزيادة المساعدات الإنمائية فإذا هي في تراجع. ورغم التعهد في كوبنهاغن عام 2009 بتقديم 100 مليار إضافية للعمل المناخي، فهي لم تصل للبلدان النامية بكاملها أبداً. كما يطول أمد الموافقة على المشروعات الحيوية لعدم كفاءة إجراءات اتخاذ القرار في بعض المؤسسات التنموية. كما تحمل تمويلات، المفترض أنها ميسرة وتنموية، برسوم شتى تثقل كاهل البلدان النامية.
هذا، فضلاً عن فرض تكاليف إضافية من قبل صندوق النقد الدولي غير مبررة، خاصة في ظل الارتفاع الراهن لأسعار الفائدة، بدعاوى منها تحفيز البلدان المقترضة منه، فوق حدود رقمية وزمنية معينة، على التعجيل بالسداد، بما في ذلك من غبن شديد لمن اضطروا للجوء للاقتراض. وقد كتب الاقتصادي جوزيف ستيغليتز وآخرون في تفنيد ودحض أسباب فرض هذه التكاليف الإضافية، التي تعتبر غرامات على دول، شعوبها أولى بمبالغها.
ومن عجب أن المؤسسات التنموية الدولية العتيدة لا تحظى بالمساندة المطلوبة من بعض مؤسسيها؛ فإذا هي طلبت زيادة لرؤوس أموالها لتستمر في عملها أُدخلت في متاهات بدعوى النظر في كفاءة رأس المال، وأنها تحتاج لرؤية جديدة ونهج مختلف لإدارة العمليات، ثم يمكن بعد ذلك دراسة ما تحتاجه هذه البنوك التنموية من زيادة لرأس المال، بما سيستغرق زمناً طويلاً سيحيل المشكلات التنموية الراهنة إلى أزمات عصية على الحل.
وتكاد بعض هذه المؤسسات تدخل في حلقة مفرغة، مما يمكن أن أطلق عليه «التعويق بمزيد من النقاش والتحليل»، من دون إطار زمني محكم أو هدف معلن. فمنها من دخل في مناقشات من نوع أن هناك انشطاراً متعارضاً بين تمويل العمل المناخي والتنمية. ولمن يتبصر في الواقع، فإن أي تمويل للعمل المناخي، تحسن صياغة سياساته، وتدرك جدوى مشروعاته، هو إما مشروعات للطاقة أو للتكيف مع المناخ في قطاعات الزراعة وإنتاج الغذاء وإدارة المياه وحماية الشواطئ والتصدي للتصحر وهدر الغابات. وهي من صميم أعمال التنمية المستدامة. ومن هذه المؤسسات من ضيع موارد بشرية ومالية في بحث المفاضلة بين العمل في مواجهة متطلبات ما يعرف بالسلع العامة العالمية، مثل التصدي للجوائح وتغيرات المناخ والهشاشة، وهل يتم ذلك على مستوى عالمي أم على مستوى الدولة المعنية، ربما ليكتشفوا بعدما يضنيهم الإرهاق ألا تعارض هناك بين النهجين، فلا سبيل حقاً للجادين في التصدي إلا بالانخراط في مشاركات بمشروعات واستثمارات تنموية على مستوى البلدان، ليتحقق النفع على المستوى العالمي بداهة. ومنهم من تخيل أنه من الممكن الاستعاضة بدفع مشاركات القطاع الخاص عن زيادة حجم رأس المال. وفي هذا تهافت شديد، فقواعد تفعيل الرافعة المالية، التي يمكن من خلالها زيادة دور الاستثمارات الخاصة، وتخفيف المخاطر التي تواجهها في تمويل المشروعات، مع زيادة المخاطر، بل ظروف عدم اليقين، تتطلب مؤسسات مالية تنموية عالية الكفاءة وذات كفاية عالية في رأس المال حجماً ونوعاً.
ليس لدي من شك أن هذه المسائل الفنية معلومة بالضرورة لذوي الخبرة، ولكنها التوترات الجيوسياسية بين بعض القوى التقليدية وبعض القوى الناشئة التي تعوق مسارات العمل متعدد الأطراف؛ ولتنظر بإشفاق، إذا أردت، لما مرت به منظمة التجارة العالمية بعد عهد من دفع حركة التجارة الدولية، وفقاً لقواعد متفق عليها. فتسييس بل تسليح أدوات التعاون الاقتصادي الدولي من شأنه أن يدفع العالم لمزيد من الصدام في ساحات، لن تكتفي بالمنافسة حتى الصراع الاقتصادي للتعبير عن تدهور العلاقات الدولية، ما يستوجب الرشد في تقديم الافتراضات السخية عن المساعدات الدولية. وإذا جاءك أحدهم بمثال حميد من الماضي عن فاعلية مشروع مارشال بعد الحرب العالمية الثانية في إعادة بناء أوروبا فلتذكره بأن عهد مارشال قد ولى، ولعلك تخبره أيضاً بأن مكنمارا مات!