بقلم: د. محمود محيي الدين
ردَّتْ جائزة نوبل لهذا العام الاعتبار للحلول الاقتصادية العملية المبنية على بحوث تطبيقية تفيد عموم الناس. فقد مُنحت جائزة نوبل في الاقتصاد الأسبوع الماضي لثلاثة من الاقتصاديين المعروفين بدراساتهم التجريبية والتطبيقية للمساهمة في علاج مشكلات الفقر والارتقاء بالرعاية الصحية للفقراء. الاقتصادي الأول هو الأميركي مايك كريمر الأستاذ بجامعة هارفارد، والثاني أبيجيت بانرجي أستاذ الاقتصاد الهندي، وثالثتهم الاقتصادية الفرنسية إثر دوفلو، والأخيران يعملان معاً في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. والثلاثة رواد لمدرسة تحليلية متطورة تطبق اختبارات، معمول بها في مجالات الطب والصحة العامة، لقياس أثر أنواع من العلاج على مجموعات كبيرة وعلى عينات لحالات مختارة عشوائياً، وتحت ضوابط محددة لقياس أثر التدخل الطبي على حالات المرضى.
وقد استخدم كريمر هذا المنهج التجريبي في بداية التسعينات من القرن الماضي على نطاق واسع في قرى كينيا لدراسة كفاءة التعليم في المدارس الريفية. وأخذ يقارن بين النتائج على مدى تعلم التلاميذ بين حالات عادية لتقديم الخدمة التعليمية وحالات أخرى توفرت فيها موارد أكبر أتاحت كتباً مدرسية أو وجبات طعام مجانية، فلم يجد لها أثراً فارقاً. كما قام بدراسات كان لها تأثير كبير على نظم الرعاية الصحية للمؤسسات الدولية العاملة في هذا المجال؛ إذ أظهرت بعض دراساته مع فريق عمله أن بعض الأسر الفقيرة لا يعطون أطفالهم أدوية، كحبوب التخلص من الديدان مثلاً، حتى لو كانت مدعومة بشكل كبير والأفضل منحها مجاناً لضمان توفير العلاج.
وقام كل من بانرجي ودوفلو بدراسات تجريبية في قطاع التعليم بالهند استخلصت أن التدريس الموجه للتعامل مع أطفال ذوي احتياجات خاصة أتى بنتائج إيجابية. كما قاما بقياس أثر حزمة من الدعم تضمنت مزيجاً من النقود والطعام ورعاية صحية وبعض التدريب على أوضاع الفقر ومستويات المعيشة وتطورها باستخدام عينة شملت عشرة آلاف أسرة تعيش في ست دول منخفضة ومتوسطة الدخل.
ورغم صعوبة إجراء مثل هذه الدراسات التطبيقية في كثير من البلدان والمناطق فيما يتعلق بجمع البيانات عن الحالات محل البحث واستمرار متابعتها وتفسير نتائجها واستخلاص التوصيات المناسبة حيالها، فإن المنهج العلمي الذي اتبعه الاقتصاديون الثلاثة قد زاد من قدراتنا على مكافحة الفقر عملياً، وهو ما نوهت به لجنة «نوبل» التي رشحت الفائزين للجائزة المرموقة. وقد أشارت اللجنة أيضاً إلى أن توصيات إحدى دراساتهم التطبيقية قد أسهمت في أن خمسة ملايين طفل في الهند قد تحصلوا على تعليم أكثر نفعاً.
لا شك أن عمليات القياس عادة ما تكون مضنية ومكلفة في حالات كثيرة، لكن استخدام المنهج التجريبي التطبيقي للاقتصاديين الثلاثة في مكافحة الفقر بتحليل العينات ومقارنتها بأخرى خضعت لظروف مختلفة يعين في النهاية صانع القرار على استهداف أدق وتحقيق نتائج أفضل، وبخاصة في ظل قيود الموارد الموجهة لأكثر البشر احتياجاً. ولدى الروس مثل قديم مفاده قِسْ سبع مرات ثم اقطع مرة واحدة، ودلالة المثل واضحة في أهمية الفحص والتفكير والتخطيط وإحسان التدبير قبل اتخاذ القرار النهائي، فبهذا يكون القرار حاسماً ونافعاً حقاً، وبغير ذلك تكون القرارات غير ذات نفع وإن حسنت نواياها، وإذا صادفها النجاح فسيكون استثناءً. كما أن هذا المنهج يعين في التعامل مع مشكلات الفقر كحالات متفردة، فلكل حالة لإنسان فقير لها خصائصها واحتياجاتها وإمكاناتها في الاستجابة، فالأمر ليس مجرد أعداد أو نسب في المجتمع ستنخفض ببعض الإجراءات النمطية وإن أنفق عليها بغير حساب.
وإذا نظرنا إلى حالة الدول العربية فسنجد أن إقليمها الاقتصادي الواقعة فيه هو الإقليم الوحيد الذي زادت فيه نسبة الواقعين فيه تحت خط الفقر المدقع والذي يقاس بمؤشر دولي يبلغ دولاراً وتسعين سنتاً للفرد في اليوم الواحد. وقد زادت نسبة من يعانون من الفقر المدقع من 2.6 في المائة في عام 2013 إلى 5 في المائة في عام 2015، كما زادت أعداد الفقراء العرب القاطنين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من 9.5 مليون مواطن إلى 18.6 مليون مواطن خلال الفترة ذاتها. وتزيد بطبيعة الحال هذه النسب والأعداد بتعريفات أخرى للفقر تزيد بها مؤشرات الحد الأدنى لتحديد الواقعين تحته من المواطنين. وإذا ما أخذ بمؤشرات مخاطر العرضة للفقر تزيد المشكلة بشكل يتطلب تعبئة الموارد وتوجيه السياسات لمواجهة هذا التحدي، الذي تتزايد مخاطره الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كما تتفاقم تبعاته الإنسانية وتهدر حقوق كان يجب أن يكون لها الاعتبار الأول.
جدير بالذكر أن الدخل هو أحد مؤشرات الفقر، فالفقير يعاني من أبعاد عدة أخرى للفقر تتمثل في صعوبة حصوله على خدمات التعليم والرعاية الصحية، ولا يتوفر لديه الغذاء الصحي المناسب ومياه الشرب النقية ولا تشمله نظم الضمان الاجتماعي. وقد اعتمدت القمة العربية التنموية في مطلع هذا العام وثيقة الإطار الاستراتيجي العربي للقضاء على الفقر متعدد الأبعاد في الفترة من 2020 حتى 2030، وهو هدف ينبغي أن يوضع في قمة الأولويات، وبخاصة في منطقة يعاني 60 في المائة من سكانها، بشكل كامل أو جزئي، من الحصول على مياه شرب نقية، وهي نسبة أعلى بكثير من المتوسطات العالمية لمن يعانون من هذه المشكلة الحيوية التي تبلغ 35 في المائة، وهي نسبة شديدة الارتفاع تستهدف أهداف التنمية المستدامة علاجها مع حلول عام 2030، وليس ظاهراً أن العالم على المسار السليم بصددها.
كما أن المنطقة العربية تقع في أدنى التصنيفات الدولية للتعليم والرعاية الصحية، فنسبة إسهام مكون رأس المال البشري في متوسط إجمالي الثروة للفرد الواحد لا تتجاوز 35 في المائة، في حين تصل هذه النسبة إلى 50 في المائة في أفريقيا و60 في المائة في شرق آسيا، ويبلغ المتوسط العالمي 64 في المائة.
أحد أهم أسباب زيادة الفقر بأنواعه في المنطقة العربية تفشي الصراعات والنزاعات بأشكالها، وتأتي لحظات تتعقد فيها الظواهر فلا يتضح فيها اتجاه العلاقات السببية هل هي من الفقر إلى الصراعات أم العكس، أم هي بالأحرى حلقة مفرغة يجب كسرها بالتعامل مع كل مسبباتها وما يترتب عليها. وهنا نرجع إلى الحلول العملية لفائزي «نوبل» ومتطلبات إطار الاقتصاد السياسي التي يمكن أن تنجح فيه وتخفق في غيرها. ففي نهاية الأمر تظهر تجارب الدول التي نجحت في تخفيض أعداد الفقراء أن التصدي للفقر خيار سياسي بالأساس. هكذا تظهر جلياً دول جنوب شرقي آسيا مع تباين نظمها السياسية واختلاف حظوظها من الثروات الطبيعية وأعداد السكان. فصانع القرار في بلداننا العربية لديه قوائم من الخبرات المعتبرة له أن يستعين بها، سواء خبرة بحجم الصين التي أخرجت ملايين غفيرة سنوياً من فخ الفقر، بفضل سياسات متكاملة للنمو الشامل للكافة نفذت دون انقطاع لسنوات متواصلة، أو خبرات أصحاب «نوبل» الثلاثة، وفي كل نفع لمن أراد.