لا يمكن الصمت إزاء تحول التوترات الطائفية المتكررة فى بعض قرى المنيا أو غيرها إلى نمط مستمر من النزاعات الطائفية التى راكمت أنماط من القيم وأشكال من السلوك والرموز والعلامات التى تشكل ثقافة للكراهية تحض على التطرف العنيف ذى المحمولات الطائفية. لا يمكن للدولة وسلطاتها وأجهزتها السكوت، ولا النخبة ولا المواطنين أو رجال الدين أيا كانوا، لأن الكراهية الدينية والعنف يشكلان مساسا جسيما باستقرار الدولة الحديثة وعلاقتها بالجماعة السياسية ومواطنيها.
مواجهة مصادر وأسباب إنتاج التطرف العنيف والكراهية والازدراء الدينى هو مسئولية جميع الأطراف الدستورية والقانونية والسياسية والأخلاقية والدينية، لأن نمط الأزمات الطائفية يمس وحدة الدولة والأمة معًا، ولأن الوحدة الوطنية القومية تعد مسألة حياة أو موت بلا مبالغة، ولا مجال إزاءها للمهادنة وعدم الحسم.
أنها ببساطة تعنى الدفاع عن أسس الوجود السياسى المصرى الحديث للدولة والمجتمع، وهياكل وتقاليد وقيم التحديث السياسى والاجتماعى، ونسق الحياة المتطور منذ دولة محمد على إلى المرحلة شبه الليبرالية إلى النظام الجمهورى ومراحله المتعددة. التصدى لمصادر العنف الطائفى وثقافة الكراهية للآخر الدينى الوطنى أساسية بل ومركزية لأن الاندماج والتكامل الوطنى بين كل مكونات الأمة اجتماعيا ودينيًا، على قمة الأولويات السياسية والأمنية الوطنية.
من هنا لابد من الاعتماد على الدراسات الاجتماعية والدينية والسياسية التى تمت حول المسألة الطائفية تاريخيًا واستكمالها بدراسة حالة بعض قرى محافظة المنيا ومناطق أخرى، بهدف صياغة سياسية للمواجهة الحاسمة تحقيقًا للوحدة الوطنية والسلام الدينى بين المواطنين جميعًا أيا كانت انتماءاتهم الدينية والمذهبية.
فى هذا الإطار لا يمكن لأى سياسة لمواجهة التطرف العنيف والتمييز الدينى أن تكون فاعلة، دون نظرة فى العمق فى أسباب المشكلة وجذورها ولماذا تحولت إلى نمط سلوكى وفكرى يستند إلى بعض التأويلات الدينية المتشددة؟ لماذا يلجأ بعض الغلاة والدعاة وحركيى الجماعات الإسلامية السياسية إلى بعض الآراء الفقهية الوضعية المتشددة إزاء المواطنين الأقباط، وذلك على الرغم من أن عديد الثقاة من كبار رجال الدين المسلمين ذهبوا إلى أن المساواة والمواطنة وحرية التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية هى مبادئ وقواعد إسلامية واجبة التطبيق فى إطار دولة القانون!
يبدو أن ثمة إصرارا من بعض الغلاة والمتطرفين على بعض الآراء الفقهية الوضعية النقلية، وانتزاعها من سياقاتها التاريخية والاجتماعية والفكرية والإصرار على بثها وترويجها بين البسطاء.
يبدو من تحليل مجمل حالات الأزمات الطائفية فى بعض قرى المنيا أن نمط التمييز الدينى والطائفى يحقق عديد الأهداف للدعاة الغلاة وحركيي بعض الجماعات الإسلامية، وبعض الأشخاص المتطرفين فى إطار تصوراتهم لفرض سلطة تأويلاتهم النقلية وقانونهم الدينى الوضعى فى الحياة اليومية بديلا عن قانون الدولة، ومنها:
1- التعبئة الدينية والطائفية تشكل أداة لدى الغلاة والمتطرفين لبناء مكانة اجتماعية ودينية، وذلك كبديل موازٍ لبناء القوة التقليدى فى هذه القرى من كبار العائلات، أو من ممثلى سلطة الدولة وأجهزتها المحلية.
2- تكريس الانقسام الاجتماعى والدينى داخل بعض القرى لفرض نفوذهم وسيطرتهم الدينية على تفاصيل الحياة اليومية، وعلى العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، ومحاولة بناء هندسة للقوة داخل القرى، من خلال تحريك وتنشيط التعبئة الدينية وتوظيفها لفرض قانون الأكثرية الدينية على الأقلية.
3- تحييد دستور وقانون الدولة فى مجال المساواة والمواطنة وحرية التدين والاعتقاد من خلال إضعاف هذه القواعد، وعدم تفعيلها فى الحياة اليومية من خلال فرض قانون الواقع التمييزى وإشعار المواطنين الأقباط بخضوعهم لسلطة قانون الأكثرية الدينى وأن عدوانهم على القانون واعتداءاتهم على الممتلكات الخاصة والأشخاص ودور العبادة سوف يتم اللجوء لحلها عن طريق مجالس الصلح العرفية.
4- تحوير وتحويل جوهر النزاعات العادية من مجالها الاجتماعى والجنائى وأسبابها إلى المجال الدينى وحساسياته، ومن ثم إلى قانون الأكثرية والأقلية.
5- التمييز أداة تغيير هوية المجتمع المتعدد إلى هوية دينية على نحو يؤدى إلى إقامة تناقض بين هوية المجتمع والدولة، ويسهم فى دعم أيديولوجيا الجماعات الإسلامية السياسية وغلاة الدعاة إزاء قيم ودستور وهوية الدولة الحديثة.
نقلا عن الاهرام القاهريه
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع