بقلم - نبيل عبد الفتاح
يمكنك أن تقرأ عشرات التقارير والبحوث والمقالات عن الحالة الصحية المصرية، وعن التقنيات الطبية وعن وضعية البنية الأساسية فى المستشفيات، وعن مساعدى الأطباء، والفنيين، والأداء الإداري، ويمكنك أن تستخلص منها ما تشاء من معلومات أساسية وتحليلات للمشكلات، ولك أن تبدى بعض الملاحظات السلبية أو الإيجابية. يمكنك أن تقلق، أو تبدى قدرًا من الغضب إزاء الخدمات الصحية الحكومية، كل ما سبق وارد بما فيه إبداء التبريرات من نقص الإمكانات والموارد المالية المخصصة لهذا القطاع من قطاعات الخدمات العامة، لكن هذا سىء، وأن تذهب إلى أحد المستشفيات الحكومية فى القاهرة والإسكندرية، والأخطر أن تذهب إلى أحد المراكز الصحية فى المناطق الريفية هنا ستواجه صدمة الواقع الفعلي، وحاول أن تستمع إلى المواطنين، وغالبًا ما ستجد التعبيرات والأوصاف السلبية والقاسية على ألسنة بعض الجمهور، وكلها تدور حول تدنى مستوى بعض الخدمات المقدمة، أو صعوبة الحصول عليها، أو نقص بعض الأدوية التى يضطر المريض أو ذووه البحث عنها فى الصيدليات وقد لا يجدها! إن شكاوى المرضى لا تقتصر على افتقار بعض المستشفيات الحد الأدنى من الأدوات والأجهزة الطبية فى بعض التخصصات، وإنما طرائق التعامل ومستوى أداء بعض الأطقم العاملة والمعاونة، أو عدم توافر بعض الأطباء المتخصصين فى بعض الأمراض، أو رفض بعض المسئولين قبول بعض الحالات المرضية لعدم وجود أماكن شاغرة، أو عدم التخصص فى بعض الأمراض، من السهولة بمكان إبداء خطاب دفاعى وتبريرى إزاء هذا التراجع فى الخدمات الصحية بدعوى نقص الميزانية المخصصة لوزارة الصحة، لكن مناقشة أسباب هذه الظاهرة الممتدة، تشير إلى أن بعضها يمكن مواجهته إذا تم التصدى لنقص الخبرات فى الإدارة الصحية، ووقف الهدر فى الإمكانات المتاحة وبرامج إعادة التأهيل والتدريب. إن نظرة على الترهل الإدارى وضعف المحاسبة ونقص الخبرة فى بعض التخصصات، تشير إلى عديد الأسباب وعلى رأسها:
-الخلل فى تقديم الخدمات الطبية بين سكان المناطق الحضرية، وبين الأرياف المهمشة تاريخيًا، لاسيما فى قرى ومراكز الوجه القبلي. ونقص فى عدد أسرة العناية المركزة فى عديد المستشفيات، وفى عدد الأطباء المتخصصين فى المخ والأعصاب، وفى بعض أطباء التخدير والعظام فى المستشفيات العامة. ونقص عدد الأسرة المخصصة للطوارئ فى بعض المستشفيات. ونقص المستلزمات الطبية الأساسية اللازمة لعلاج المرضى.
ـ عدم وجود بعض الأجهزة التكنولوجية الطبية اللازمة لتشخيص بعض الأمراض، أو وجودها، ولكنها لا تعمل، وتحتاج إلى صيانة دورية. وازدحام المرضى فى العيادات بالمستشفيات العامة لغياب التنظيم. ونقص فى الأسرة المخصصة لرعاية الحروق. ومعاناة المرضى كبار السن فى التعامل مع التأمين الصحي، وعدم توافر بعض الأدوية مع إعطائهم بدائل بعضها أقل فاعلية من الدواء الأصلي، وعدم فحص بعض الأطباء لمرضى الأمراض المزمنة، والمعاناة فى تحويل المريض إلى الاستشارى المتخصص، الذى يستغرق من شهر إلى شهر ونصف الشهر. و تدهور البنية الأساسية للمستشفيات العامة، وعدم توافر الصيانة الدورية المنتظمة لمكوناتها الأساسية وخدماتها. وعدم وجود مراكز متخصصة للسموم فى بعض المستشفيات العامة لنقص الأطباء والإمكانات. ضعف مستويات تكوين وتدريب وخبرات بعض العناصر المساعدة للأطباء، والحاجة إلى منظم للتدريب وإعادة التأهيل المستمر. واستنزاف الميزانية المخصصة للصحة فى الأجور والمكافآت شأن غالبية الوزارات وأجهزتها الإدارية. وضعف مستويات بعض الأجهزة الإدارية وبطء أدائها واعتمادها على التقاليد البيروقراطية الموروثة، ومن ثم حاجتها للتطوير الإدارى فى إعادة التأهيل، والاعتماد على رقمنة عملياتها. وتضخم بعض العمالة غير المدربة والمؤهلة للعمل فى بعض المجالات التى تتطلب التخصص الدقيق. وتراجع مخرجات العملية التعليمية فى كليات الطب لاسيما الخاصة، ومن ثم بروز بعض الفجوات فى التكوين والخبرات بين الأجيال المختلفة من الأطباء على الرغم من التطور فى المهن الطبية عالميًا، وبروز عديد من الأطباء الكبار والبارزين من المصريين، وطنيًا وعالميًا.
من ناحية أخرى، ثمة أسباب تعود إلى وهن المتابعة السياسية والبرلمانية لأداء وزراء الصحة، وتتمثل فى تقديم بعض التصورات البيروقراطية العامة للسياسة الصحية، وذلك دون عرض للإمكانات الفعلية المتاحة، وكيفية تنظيم الأداء ومستوياته داخل أجهزة الوزارة المختلفة، ووقف الهدر للإمكانات المتاحة، وتطرح على الرأى العام ليكون طرفًا فى مشكلات القطاع الصحي، ثم تعرض على مجلس النواب للنقاش حولها. يعود هذا العطب فى الأداء إلى الاعتماد على الفكر البيروقراطى التقليدى السائد فى الأجهزة الإدارية المصرية.
إن استمرارية هذا النمط التقليدى فى الفكر والأداء فى هذا القطاع العام يعود إلى ضعف المساءلة السياسية من أعضاء البرلمان من خلال أدوات الرقابة البرلمانية كالأسئلة، وطلبات الإحاطة، والاستجوابات للحكومة والوزراء. هناك أيضًا غياب نسبى للمعلومات الأساسية حول المنح التى تقدمها المنظمات الدولية كمنظمة الصحة العالمية وغيرها إلى وزارة الصحة، وما مدى الاستفادة منها فى مجال التدريب، أو تحديث الجهاز الإداري، أو فى مواجهة بعض الأمراض ... إلخ. ثمة نجاح تم تحقيقه فى مجال مواجهة فيروس «سى»، لا يمكن نكرانه، واعتمد على التوجيهات السياسية العليا، ويمكن تحقيق نجاحات أخرى فى مجال تحديث الأجهزة الإدارية، وبرامج التأهيل المستمر للأطباء الشباب، ومعاونى الأطباء. إن وضع سياسة صحية جديدة وفعالة يتطلب حوارًا مجتمعيًا وبرلمانيًا وحكوميًا موضوعيًا وجادًا، لأن مشكلات هذا القطاع المهم مع التعليم تشكل واحدًا من أهم المشكلات الاجتماعية الحادة، وتحتاج إلى فكر جديد وخلاق وإرادة صارمة على التخطيط والعمل والحزم.
نقلا عن الاهرام القاهريه
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع