تكالب المشكلات وتمدد الأزمات الكبرى فى عالمنا العربي، والصراعات البينية بين بعض النظم والنخب السياسية الحاكمة، أدى إلى الهشاشة السياسية، ووهن الموحدات الجامعة لمصلحة النزاعات القُطرية والدينية والمذهبية والمناطقية والقبلية والعرقية، وإلى تفكك عديد من الأنسجة الاجتماعية التقليدية التى انتظمت حولها الحياة فى هذه المجتمعات عند بناء دولة ما بعد الاستقلال، والتى لم تستطع أن تحقق أهدافها فى بناء مقومات ومؤسسات الدولة الوطنية حول سيادة القانون والمواطنة والحريات العامة والفردية، والتكامل الوطني، وذلك نظرًا لميراث العنف السلطوى الغشوم للدولة الشمولية والتسلطية، الذى أثر سلبًا على جميع الأساطير السياسية والأيديولوجية التى رفعها آباء الاستقلال وخلفاؤهم السياسيون.
ساهمت التصدعات والحروب الأهلية فى الإقليم العربى فى تمدد دول الجوار الجغرافى العربى فى قلب مناطق النزاعات، وباتت تمثل مراكز قوى محركة للأوضاع السياسية فى المنطقة، وفى ظل هذه الأوضاع المعقدة لم تعد الجامعة العربية قادرة على المبادرة أو الفعل السياسى فى عديد المجالات السياسية والاقتصادية، لاعتبارات تتصل بالسياسات الخارجية الدولية والإقليمية لأعضائها، والتمايزات بين بعض مصالحهم الوطنية وتوجهاتهم، ومن ثم يبدو الأفق أمامها غائمًا فى نظر بعضهم ومسدودًا فى نظر آخرين، نظرًا لحالة عدم الاستقرار السياسى فى الإقليم، ويبدو أن المجال الذى يمكن أن يساهم فى إعادة الحيوية والفاعلية للعلاقات العربية - العربية بين الدول، وبين المجتمعات الأهلية المدنية- العربية، وإلى فكرة العروبة، يتمثل فى تطوير العلاقات الثقافية العربية، فى ظل عديد الممكنات المتاحة، والتى تحتاج إلى تطوير، وهو ما سوف يؤدى إلى عديد من الإيجابيات يمكن لنا إبرازها فيما يلي:
1- إن تعدد المراكز الثقافية العربية، يعطى إمكانات واسعة للتنوع وإبراز الجهود الوطنية فى مجالات الإبداع والإنتاج الثقافي، وجهود الدولة والمنظمات غير الحكومية العاملة فى مجال الثقافة.
2- استعادة أدوار المبدعين والمثقفين، للقيام بأدوارهم فى مجال التغيير الاجتماعي، وذلك عقب ابتعاد أصوات بعضهم عقب سنوات ما بعد الربيع العربي، وصعود بعض القوى الأصولية إلى السلطة وتمددها فى المجتمع، لاشك أن دور المثقفين والمبدعين يشكل أحد أهم قوى إعادة بناء التوازنات الاجتماعية والثقافية فى المجتمعات العربية، من منظور متابعة مشروعات التنمية والتحديث.
3- التنسيق والتكامل فى الأدوار والسياسات الثقافية يشكل قاعدة أساسية فى دعم التفاعلات الاجتماعية والسياسية بين المجتمعات العربية، وبين النخب الثقافية والسياسية، ويساهم فى بناء الأرضيات الحوارية المشتركة فى المجالات السياسية والاقتصادية.
4- مواجهة التحديات التى تفرضها الثورة الصناعية الرابعة فى مجال الذكاء الصناعى والرقمنة، والترجمة عن اللغات الكبرى فى عالمنا فى مجال العلوم الطبيعية والاجتماعية.
ثمة ضرورة موضوعية وتاريخية للاهتمام بمشكلات اللغة العربية وضرورة تطويرها قاموسيا، وعلى صعيد البنى النحوية، ورموزها بالترجمة عن المصطلحات الجديدة فى العلوم الاجتماعية والطبيعية فى ظل الثورة الصناعية الرابعة. هل هناك إمكانية واقعية وعملية؟
البدء بما هو متاح وما يطرحه الواقع الموضوعى على الرغم من مشكلاته وعوائقه واضطرابه من خلال رؤية فى حدها الأعلي، ونظرة إرشادية، لا تشكل نموذجا، ولا فلسفة، ولا نظرية إنما محضُ سياسة تأشيرية إذا جاز التعبير، أو فلنقل خطوط تأشيرية لبث دينامية جديدة، تتدفق فى شرايين الإنتاج المعرفى والثقافى العربي. بعض ما نطرحه هنا ممكن التفعيل والإعمال، وذلك على المستويين الرسمي، والطوعى الأهلي. من الأهمية بمكان توظيف وتفعيل الأطر المؤسسية العربية الراهنة، وذلك على النحو التالي:
1- تفعيل وتجديد المنظمة العربية للثقافة والعلوم الأليسكو، وتطوير برامجها المختلفة وبحث أشكال للتعاون مع المنظمات الثقافية الطوعية فى أنشطتها المختلفة، والتنسيق بينها وبين الإدارة الثقافية بالأمانة العامة للجامعة العربية.
2-إنشاء مركز عربى للترجمة يقوم بالتركيز على ترجمة ونشر المؤلفات الأساسية فى العلوم الاجتماعية، والطبيعية، وفى إطار الثورة الرقمية، والاهتمام بالترجمة عن الإنتاج الفكرى فى دول آسيا الناهضة شبه المجهولة فى الفكر العربى المعاصر.
3- دعوة الجامعة العربية لمؤتمر لبعض المثقفين العرب، للإعداد للقمة العربية الثقافية الأولى يمثل ويعكس المدارس الفكرية والفلسفية العربية.
4- دعوة الأليسكو والإدارة الثقافية بالجامعة، ومنتدى الفكر العربى ومركز الدراسات السياسية بالأهرام لمؤتمر حول دور المنظمات الثقافية الطوعية فى التكامل الثقافى الطوعي، وإمكانات التعاون والتنسيق مع المؤسسات الثقافية الرسمية، وطبيعة المشكلات التى تواجه العمل الثقافى الطوعي.
5- استطلاع آراء وتصورات المجامع اللغوية العربية حول مشكلات اللغة العربية، ومناهج تطويرها من خلال سياسة لغوية جديدة فى ظل الصراعات الضارية فى السوق اللغوى الكوني، ويمكن فى هذا الإطار عقد مؤتمر أو ندوة تدعو إليها مؤسسة الفكر العربي، ومركز الدراسات بالأهرام، والإدارة الثقافية بالجامعة والأليسكو حول المشكلات التى تواجه اللغة العربية على الصعد القاموسية والنحوية والتعليمية، وتجميع المقاربات والمقترحات التى أعدتها المجامع لمواجهة هذه المشكلات، فى ظل تطورات الثورة الصناعية الرابعة، والتنافسات بين الأنظمة اللغوية الكبرى والإنجليزية والإسبانية والألمانية والإيطالية، وتمدد اللغة الصينية فى بعض الدول الإفريقية فى ظل صعودها الاقتصادى الكبير، وإشارة عديد من الباحثين فى اللغات الدولية، إلى أن اللغة الصينية ستغدو خلال الفترة من خمسين إلى مائة عام هى اللغة العالمية الأولى.
نقلا عن الاهرام القاهريه
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع