بقلم - نبيل عبد الفتاح
عديد من المخاوف والتوجسات تظهر مع كل دعوة أو مطلب لإصلاح الفكر أو الخطاب الدينى تظهر فى العالم العربى، وخاصة إذا كان مصدرها بعض المفكرين أو المثقفين من ذوى الانتماءات للمدارس الفكرية الفلسفية والسياسية الغربية، أو من بعض هؤلاء الذين يظهرون آراءً تتناقض مع المفاهيم الدينية التأسيسية، أو الذين ينكرون دورًا للدين فى بعض الهندسات الاجتماعية للحياة فى هذه المجتمعات.
بعض هذه المخاوف تبدو وجيهة بالنظر إلى أن بعض المقاربات المنهجية التى استخدمها بعض الباحثين استمدت من بعض الميراث الاستشراقى التاريخى حول الإسلام، والذى حاول بعضه أن يتجاوز العلوم الإسلامية التأسيسية فى الفقه والتفسير والتأويل وعلم الكلام والحديث والسيرة النبوية المشرفة، أو اتخذ منها مواقف مناهضة، أو رافضة، وهو ما شكل محاولة للقطيعة التاريخية مع هذا الإرث التاريخى الثقافى المهم، والذى ساهم فى تكوين العقل الإسلامى، وفى صياغة أحد أبرز روافد الهوية التاريخية للمجتمعات العربية الإسلامية، ومن ثم لم تجد مثل هذه الدعاوى سوى الرفض والجحد، خاصة أنها تشكل محاولات وتمرينات بحثية أولية لم يستطع بعضها أن يحقق نتائج علمية ذات وزن على صعيد البحث التاريخى.
من ناحية أخرى كشف تاريخ حركات التجديد الدينى الإسلامى منذ صدمة الحداثة والمواجهة مع الاستعمار الغربى ونهاية القرن التاسع عشر، عن إخفاق محاولات التجديد الدينى الخارجى أو التحديث من خارج البنى العقلية والفكرية والتفسيرية والتأويلية الإسلامية، وهو ما يتأكد مع عديد من المحاولات المعاصرة التى حاول بعض الباحثين العرب استخدام بعض المناهج اللغوية والأيديولوجية فى درس بعض قضايا الفكر الإسلامى. لاشك أن هذه المحاولات النظرية الغربية أثارت عديد المخاوف لدى بعض المؤسسات الدينية الرسمية التى رفضت الاستجابة لها فى العالم العربى، وذلك لعديد من الاعتبارات على رأسها ما يلى: جمود المناهج التعليمية النقلية المقررة على طلاب العلوم الدينية، واعتمادها على آلية الحفظ والاستذكار والتكرار. ومحدودية وابتسار المناهج الحديثة فى العلوم الاجتماعية المقررة، واستخداماتها فى دراسة الموروث التاريخى للفكر الإسلامى الوضعى النقلى. وتمدد بعض الجماعات الإسلامية السياسية والسلفية داخل تركيبة وهيكل أعضاء هيئات التدريس داخل بعض الجامعات الإسلامية العربية، وتجنيد بعض هذه الجماعات لبعض طلاب كليات الجامعات الإسلامية، على نحو شكل قوة رفض محافظة لأى اتجاهات أو دعوات تطالب بإصلاح أو تجديد الفكر الدينى، واعتبارها محاولة للتغريب واعتداء على الهوية الإسلامية. وفى ظل موجات العنف والإرهاب، تمدد الجمود فى الفكر الدينى، وذلك بالنظر إلى هيمنة تيارات من البنُى الأيديولوجية والتأويلية الإسلامية المتشددة والمحافظة، ساعد على انتشارها نمو هذه الجماعات المتطرفة، والفكر السلفى والوهابى المحافظ، ودعم بعض الدول الإسلامية النفطية لبعض هذه المنظمات والجمعيات الأهلية فى العالم العربى.
ساهم فى نشر الجمود ومحاربة التجديد أمور أخرى ذات طابع سياسى تمثل فى هيمنة المواجهات الأمنية للتيارات المتطرفة. لا شك أن الخيارات الأمنية للنظم العربية فى المواجهة أدت إلى تهميش دور السياسة الثقافية والجماعات الثقافية فى المواجهة، ومن ثم إلى عدم التنبه إلى ضرورة تجديد السياسة الدينية، ومن ثم تجديد الفكر الدينى من خلال حزمة من السياسات العامة المتكاملة فى التعليم والثقافة والإعلام، تعتمد على التحول من العقل النقلى إلى العقل النقدى، لاسيما فى المناهج التعليمية المقررة فى التعليم العام، والتعليم الدينى. هذه الدعوة ليست جديدة، لكن لا يتم الاهتمام بها فى عديد البلدان العربية. من ناحية أخرى المجال العام السياسى والدينى فى المجتمعات العربية لا يزال محاصرا فى بعضها، ومغلقا فى بعضها الآخر، ومن ثم يساعد على نمو الأفكار المغلقة والمتشددة دينيا، واستخدام بعض الجماعات لها كبنى أيديولوجية للمعارضة السياسية الدينية للدولة والنظام السياسى والنخبة الحاكمة والمؤسسة الدينية الرسمية الداعمة لهم. هذا النمط من الجماعات المتطرفة يستخدم أفكاره الأيديولوجية التأويلية النقلية أداة لجحد ونفى الشرعية السياسية للأنظمة السياسية القائمة.
من هنا نستطيع القول إن السياقات التاريخية والسياسية لنمو حركات الغلو ساهمت مع سيادة الدولة التسلطية، وأنماط التسلطيات التعليمية والثقافية والدينية فى كبح أى محاولات لتجديد الفكر الدينى الإسلامى التى برزت محاولاتها الجادة والرصينة مع صدمة المواجهات مع الاستعمار الغربى وبدايات طرح الأسئلة التاريخية لماذا تقدموا؟ ولماذا تخلفنا؟ وهى أسئلة يقظة وحركة وتحرر وجاءت أبرز الإجابات، من داخل المؤسسة الدينية الإسلامية، على سبيل المثال فى مواجهة الهندسة القانونية الوضعية اللاتينية القانون المدنى- وضع الشيخ خليفة المنياوى أول مدونة مدنية وفق المذهب الحنفى، كانت استجابة جسورة لتحدى استعارة المنظومات القانونية الإيطالية والفرنسية. ثم كانت تجديدات الإمام محمد عبده والمشايخ على ومصطفى عبد الرازق، والإمام الأكبر مصطفى المراغى، وعبد المتعال الصعيدى والإمام الأكبر محمود شلتوت، ود.محمد عبد الله دراز وآخرين. من الشيق ملاحظة أن هؤلاء المشايخ المجددين كانوا أبناء المرحلة شبه الليبرالية، والحياة السياسية والثقافية التى تسودها الحريات العامة والفردية.
نقلا عن الاهرام القاهريه
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع