بقلم - عاطف الغمري
كلما تابعت تقلبات سياسة أمريكا الخارجية مع عالمنا العربى قفز إلى ذهنى من الذاكرة ما كان قد رواه لى مسؤول أمريكى سابق فى دردشة سبقت بداية الحوار الذى أجريته معه عندما التقيت به.
يومها قال لى: قرار السياسة الخارجية يتخذه الرئيس فى جو أشبه بالسوق.. سوق بلا أسوار وبوابتها مفتوحة. والرئيس جالس كأنه يمسك فى يده بميزان له كفتان، وليقرر بناء على رجحان إحدى الكفتين القرار الذى يكون لصالح طرف من الاثنين. كل من الطرفين يضع فى الكفة التى تخصه ما لديه من ثقل. ثم يتخذ الرئيس قراره منحازا للطرف الذى حشد فى كفته كل ما لديه من قدرات وضغوط.
أضاف محدثى إلى نموذج السوق والميزان إيضاحا لحالنا نحن- العرب- قال لو كان القرار يتعلق بالعرب وإسرائيل، فنجد أن إسرائيل قد حشدت كل ضغوطها بما فى ذلك المروجون لمصالحها (السماسرة)، ليوضع كل ذلك فى كفتها، بينما أنتم- العرب- تجلسون خارج السوق وتنتظرون النتيجة.
ولزيادة إيضاح هذا المثل من واقع تجربة مررت بها فى منتصف الثمانينيات. وقتها كنت أحضر دورة دراسية فى النمسا، فيما يسمى الكلية الأمريكية أو حسب الاسم الذى عرفت به وهو ساليزبرج سيمينار، عنوانها «صناعة قرار السياسة الخارجية الأمريكية».
وكنت أشارك فى برنامج محاكاة لمفاوضات طرفاها رئيس مصر ورئيس أمريكا، يتخذ فيها مستشار سابق للرئيس الأمريكى، موقع رئيس بلاده. بينما أكون أنا نظريًا فى موقع المحاكاة لرئيس مصر.
وسألنى عن مطالب مصر من أمريكا طالما أننا نتفاوض، وبعد أن عرضت وجهة نظرى جاءتنى إجابة الأمريكى المتخيل أنه رئيس أمريكا بجملة محددة هى: وما الذى لديك حتى تجعلنى أستجيب لمطالبك، وأدخل تغييرا على سياستى؟
كانت جملته المختصرة تجسد نفس المعنى الذى قاله لى المسؤول الأمريكى السابق عن الإمكانات والضغوط التى تلقى فى كفة الميزان، وهل هى فى حوزتى، وأن لدى إرادة استخدامها؟.
هنا لا يمكن أن نغفل أن السياسة الخارجية فى أمريكا يحكمها عاملان: المصالح، ثم ميزان القوى، وما يملكه الطرف الآخر (عربيا)، من قدرات على تغيير مؤشر ميزان القوى لصالحه. وحتى تكتسب الصورة ذات الخصوصية الأمريكية أبعادا واقعية، فإننى أضيف إليها قول أستاذ العلوم السياسية بجامعة واشنطن إدوارد كوردن الذى قال: حين نص الدستور الأمريكى على مشاركة مجموعة من القوى فى صناعة قرار السياسة الخارجية، فلم يكن يقصد دعوة للمشاركة بالمعنى الحرفى للكلمة، بل دعوة للصراع بين هذه القوى التى يسعى كل منها بما يملكه من قدرات وإمكانات إلى السيطرة على قرار السياسة الخارجية.
والمعروف أن كلا من هذه القوى يمارس ضغوطا على الرئيس صانع القرار، فى دولة وصفها المختصون فيها بدولة الضغوط. وهذه القوى تضم ما يعرف بقوى الضغط، وجماعات المصالح، والنخبة فى مراكز الفكر السياسى، والإعلام، والرأى العام، بالإضافة إلى الرئيس والكونجرس. هذه هى أمريكا بنظامها ذى الخصوصية الفريدة، مقارنة بأى نظام سياسى فى دولة أخرى، والتى يتخذ فيها الرئيس صانع السياسة الخارجية قراره بنظام السوق مفتوحة الأبواب، وبلا أسوار.
وليست هناك موانع تحول دون دخول من يريد، لكن المشكلة هل كل من له مصلحة فى القرار الذى تمسك به يد الرئيس لديه فعلا إرادة الدخول إلى السوق، أم أنه يفضل كما قال لى المسؤول رفيع المستوى: الجلوس فى مقاعد المتفرجين، وانتظار النتيجة؟!=
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع