بقلم - حبيبة محمدي
كثيرًا ما يُطرح علىَّ فى لقاءاتى الأدبية أو حواراتى الصحفية سؤالٌ أراه جوهريًا عند كلِّ كاتبٍ جَعل من الكتابة مشروعًا فى الحياة وليس ترفًا، وهو:
ما روافدى فى الكتابة؟
اليوم، سأكتب عن جزءٍ منها، فحسب:
الرؤيةُ رحبة، والكلماتُ لا تتسع!
لقد أنقذنى النِفرى! أنقذنى التصوّف، أنقذتنى الحكمةُ/ الفلسفة!.
ثلاثُ مقارباتٍ، أتصوّر أنَّه لابد على كلِّ شاعرٍ أن تكونَ له معرفة بها: الشِّعر، الفلسفة، والتصوّف؛ (على أن تظل المعرفة الموسوعية أهم الروافد لأى مبدع)، لكنّى أحبُ أن تستأنسَ الرُّوحُ بهذه الروافد الثلاثة، فهى أقرب إلى ضوئها، حيث تقع الشاعرةُ داخلى فى ذلك البرزخ الممتد بين الشِّعر، التصوّف، والفلسفة!. من المتصوّفة الذين قرأتُ لهم وتأثرتْ روحى بهم وعقلى - على سبيل المثال لا الحصر - «النِفرى»، أكثر مَنْ كانت نصوصُه تُمثِّل جسرًا بين اﻷدب والفلسفة، فهو من أعلام التصوّف الإسلامى ورائد الرمزية اﻷدبية الصوفية، والذى تُعد مؤلفاتُه على - قلتها - نموذجًا للأدب الصوفى الرفيع فى تراثنا اﻹسلامى. هو «محمد بن عبدالجبار بن الحسن النِفرى»، وهو من أبرز علماء التصوّف فى القرن الرابع الهجرى، ويجمع بين التصوّف والفلسفة والأدب، «النِفرى» الذى اتسعتْ معرفتُه ورؤيتُه، فجعل عبارتَه رمزًا، كان من كبار الصوفية، وتنقّل كثيرا بين العراق ومصر، ومن أشهر كتبه كتاب «المواقف والمخاطبات»؛ ومن أشهر نصوصه وأجملها:
((كلَّما اتسعتْ الرؤية.. ضاقتْ العبارة))!.
الذى أمدّنى بأسلوب كتابته، حيث الحكمة فى الرؤية، والشذرة أو النصّ الذى لا يتعدى سطرًا أو سطرين، لكن فيه إضاءة الحكمة وفلسفة الرُّوح.. هو شعر الحكمة أو الشِّعر الفلسفى. ثم الفيلسوف والمتصوّف الكبير «محيى الدين بن عربى» (٥٦٠- ٦٣٨ هجرية)، الذى لُقب بالشيخ الأكبر أو شيخ الصوفية الأكبر، وقد شكّل بداخلى صرحًا وجدانيًّا لا ينتهى، مع متصوّفين آخرين كثيرين.. وهو المتربّع على قمة الهرم الفكرى فى الحضارة الإسلامية، فكرًا ومعرفةً، شعرًا وتصوفًا.. صاحب «ديوان تُرجمان الأشواق»، «فُصوص الحِكم»، و«رسائل ابن عربى»، «الوصايا لابن عربى».. وغيرها من المؤلفات الشهيرة والمهمة. وهناك أيضا «ابن عطاء الله السكندرى»، الذى عُرف بأسلوب كتابته، حيث الحِكم الفلسفية أيضا؛ خاصة فى كتابه «الحِكم العطائية» وهو فقيه وصوفى، الملقب بـ«قطب العارفين». عمومًا، إنَّ تاريخَ التصوّف اﻹسلامى حافلٌ بالمتصوّفة الذين عبَّروا أدبا - شعرًا ونثرًا- عن تجاربهم العرفانية، وهناك أيضًا « البسطامي» و«السهروردى»، وسلطان العاشقين «ابن الفارض»، وغيرهم كثيرون. لكنَّ المجالَ لا يتسع لذكرِ جميعِ مَنْ نقرأ لهم. ويبقى الشِّعرُ حالةً وجدانية وعرفانية روحانية مثل حالة الوجد عند المتصوّفة، فالشاعرُ هو العارفُ، والشاعرُ والمتصوّف يشتركان فى حالةِ الوجدِ والذوق..
ومَنْ ذاقَ عَرِف!.