بقلم: محمد أبو الغار
هذا هو الكتاب الثانى لشعير عن نجيب محفوظ بعد كتابه أولاد حارتنا «سيرة الرواية المحرمة». فى هذا الكتاب الجميل الصادر عن دار الشروق، يتناول أدب نجيب محفوظ من بدايته إلى رحيله مع خلفية تاريخية عن أحوال مصر عبر سنوات عمره وعلاقة محفوظ ومدى تأثره بالآخرين وبالمجتمع والأحداث.
يصف شعير أحوال مصر يوم ميلاد محفوظ 11 ديسمبر 1911 ويصف مسرح سلامة حجازى وجورج أبيض وما تكتبه الصحف، ويوضح أن مقاومة الاحتلال فى الشارع كان يقودها الحزب الوطنى بقيادة محمد فريد والصحافة بقيادة عبدالعزيز جاويش، وكان وزير التعليم سعد زغلول قبل انضمامه للشعب ضد الاحتلال. كان تعداد القاهرة 700 ألف نسمة وكان عدد طلاب المدارس العليا 1014 والثانوى 2405. وفى هذا العام سافر مختار إلى باريس لدراسة النحت، وأوشك محمد حسين هيكل على الانتهاء من كتابة أول رواية مصرية «زينب» وأطلق طلعت حرب فكرة إنشاء بنك مصر وتم اغتيال بطرس غالى مما أدى إلى فتنة بين المسلمين والمسيحيين.
يحكى شعير عن حادث سرقة عائلية لأوراق محفوظ بعد وفاة والدته، وانتقلت الأوراق إلى نيويورك لتستقر فى الخليج عند هاو لجمع التراث، واستطاع شعير بمجهود كبير أن يحصل على صورة من معظم الأوراق القديمة والحديثة أهمها نص ذكريات الطفولة «الأعوام» والتى كتبها متأثراً بسيرة طه حسين «الأيام» ويقدر شعير أنها كتبت عام 1929 وكان عمر محفوظ 18 عاماً وهو نص هام ينشر لأول مرة يتحدث فيه عن طفولته بدءاً من الرضاعة من ثدى أمه، ووصف لبيت الجمالية والسطوح وشجر اللبلاب وضرب أمه له لشقاوته والخوف من العفاريت والثعابين، وأخته التى طلقت بعد أن أنجبت 3 أطفال، ويصف حماة أخته التى كانت تخيف محفوظ، ويحكى عن إصابته بالمرض وشفائه وكيف كان يخرج مع أمه إلى العتبة، ويركبون الترام إلى الجيزة أو مصر الجديدة للفسحة وركوب عربة كارو، وكيف شاهد عساكر الإنجليز من النافذة وهم يحتلون قسم بوليس الجمالية، وكيف كان الجميع يخافون منهم، ويذكر أنه عرف فى طفولته أن سعد زغلول نفى خارج الوطن، وأن الثورة اشتدت، وأن هناك وزيرا اسمه نسيم وآخر اسمه ثروت وهما مكروهان، ويتذكر الاحتفالات والهتافات عند عودة الزعيم سعد زغلول. ويحكى ذهابه إلى مدينة الملاهى فى مصر الجديدة. وأطلقت عليه أمه لقب «أبو التفانين الرايق» لولعه بالفن وحياة العوالم. ويحكى بالتفصيل انتقال العائلة من الجمالية إلى العباسية الحى الحديث، حيث هناك كهرباء ومياه جارية ومجار وحديقة خلف المنزل.
يحكى الكتاب عن علاقة محفوظ بطه حسين وأولها تأثره بالأيام ثم امتحان القبول فى الجامعة حين سأله طه حسين لماذا تريد أن تدرس الفلسفة فيجيب محفوظ لأنى أريد معرفة الكون وأسرار الوجود، فيضحك طه حسين ويقول أنت جدير بالفلسفة فعلاً لأنك تقول كلاماً غير مفهوم. وكان محفوظ يرى أن ثورة طه حسين ضد المناهج القديمة هى انتفاضة عقلية موازية للثورة الحقيقية التى فجرها سعد زغلول، ولم يكن سعيداً أن طه حسين لم يكن منضماً للوفد حزب الشعب، فقال إن رجلاً مؤمناً بالحرية فى حدودها القصوى مثل طه حسين لا ينبغى أن يكون كاتب الأرستقراطية المصرية (الأحرار الدستوريين) بل أن يكون مقرباً من سعد زغلول. وواضح أن تأثير طه حسين عليه كان طاغياً.
ويشير شعير إلى مقال نشره محفوظ فى المجلة الجديدة عام 1934 موضحاً الثلاثة الذين أثروا فيه، وقال إنهم صانعو نهضتنا الأدبية العقاد رجل البداهة وسلامة موسى رجل التفكير العلمى وطه حسين رجل الذكاء. ولم يلتفت النقاد إلى أعمال محفوظ لفترة طويلة ولفت الناقد أنور المعداوى نظر طه حسين إلى رواية بين القصرين فكتب مقالاً عنها واعتبر محفوظ ذلك أسعد أيام حياته وكتب لويس عوض أن محفوظ هو الكاتب الذى رضى عنه اليمين والوسط واليسار والقديم والحديث ومن هم بين بين.
والحديث عن أبيه كان محدوداً فذكر أنه كان أنيقاً يلبس الجبة والقفطان فى الصيف والبدلة فى الشتاء وكان محباً لصالح عبدالحى الذى ألف له طقطوقة «لابس جبة وقفطان.. وعاملى بتاع نسوان.. مبقاش فى الدنيا أمان».
وينتقل شعير إلى ولادة محفوظ وحكاية أن الذى قام بالولادة هو د. نجيب محفوظ مجرد احتمال غير مؤكد. ثم يذكر أن عم محفوظ واسمه فهمى استشهد برصاص الإنجليز وخلده نجيب فى الثلاثية. وبعد أن غاص فى طفولته واهتمامه بكرة القدم ينتقل إلى النهايات وتأثره بعدد من الفلاسفة هم ديكارت، كانط، شوبنهور وسارتر وكامو، وتأثر بسارتر فلسفة وموقفاً.
كتب محفوظ الأخيرة تذكر الطفولة والشباب وأيام الجمالية والعباسية. الأسلوب تغير والتكنيك تغير مع الشعور بالشيخوخة ودنو النهاية وهيمنة الوداع. ويحكى شعير من الوثائق عن المراحل الثلاث التى مرت بها أصداء السيرة الذاتية. وتجلت روعة محفوظ فى نهاية أعماله حين كتب عن عبدربه التائه. تجلت كراماته فى المداومة على خدمة الناس وذكر الله وفى عيد ميلاده المائة سكر ورقص وغنى وتزوج بكراً فى العشرين، وفى ليلة الدخلة جاءت كوكبة من الملائكة فبخرته ببخور من جبل قاف، وعندما سئل هل تحزن الحياة على أحد؟ أجاب نعم، إذا كان من عشاقها المخلصين وهدفه الدائم العدل والرحمة للنجاة ولا شىء آخر. إن خرجنا سالمين فهى الرحمة وإن خرجنا هالكين فهو العدل. وقال نجيب محفوظ إن مغادرة رغبة الكتابة عندى هى يوم موتى.
الكتاب به تحليل متميز لأعمال محفوظ فى الفترات المختلفة من حياته ومجموعة من الوثائق بعضها بخط يده تنشر للمرة الأولى. حقاً مجهود رائع وإضافة حقيقية هامة.
قوم يا مصرى مصر دايماً بتناديك