بقلم - ديفيد اغناتيوس
خلال لحظات من زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الولايات المتحدة الأسبوع الماضي، ربما بدا أشبه بالتابع الفرنسي للرئيس ترمب. إلا أنه بحلول نهاية الزيارة، اتضح أن هذا الشخص الأليف ظاهرياً يحمل أنياباً.
وقد تناولت صحيفة «لو موند» الفرنسية في مقالها الافتتاحي يوم الخميس الماضي، هذا الوضع الملتبس تحت عنوان «زيارة ذات حدين». وأشارت الصحيفة إلى أنه رغم الإيماءات الدافئة التي حملتها صور لقاء ماكرون وترمب يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين، فإن العنصر الأساسي في الزيارة يبقى الخطاب الذي ألقاه ماكرون أمام الكونغرس يوم الأربعاء الماضي، وكان «أقرب للوحشية» في نقده لسياسات ترمب. أما «لو فيغارو»، فتناولت الأمر على نحو ألطف في مقال لها الخميس الماضي بعنوان: «ماكرون يغوي الكونغرس».
وبالفعل، نجد أن ماكرون خرج من زيارته لواشنطن كثقل فرنسي ذكي مقابل لترمب -شخص قادر على الإطراء والتلاعب وإبهار الآخرين. الواضح أن ماكرون شخص يجيد استغلال الفرص السانحة في لحظة تعاني بريطانيا من التراجع وتلتزم ألمانيا الصمت، ما يشكل فرصة لدفع فرنسا إلى مركز الدبلوماسية الأوروبية للمرة الأولى منذ عقود كثيرة.
وخلال تجمع صغير للصحافيين، مساء الأربعاء الماضي، طرح على ماكرون تساؤلاً حول ما إذا كان يعتبر ترمب متقلب المزاج شريكاً جديراً بالثقة؟ أجاب ماكرون: «نعم، أثق به كثيراً لأنني أرغب منه التحرك قدماً» كي يضطلع بدور حامي التعددية والقيم الغربية. بمعنى آخر، يثق ماكرون بترمب لدرجة تجعله يعتقد أن بمقدوره تحريكه في الاتجاه الذي يريده.
من ناحية أخرى، نجد أن حتى بعض أعضاء الحقل الدبلوماسي الفرنسي يتشككون في أن يحظى هذا التقارب الودي بين باريس وواشنطن بنهاية سعيدة. واللافت أن هذه الزيارة شهدت تضاؤلاً في مكانة ماكرون بسبب الألفة الزائدة التي أبداها ترمب في التعامل معه، وفي الوقت ذاته عززت مكانة الرئيس الفرنسي بفضل حضوره الكاريزمي في المناسبات العامة.
وعلى ما يبدو، خسر ماكرون بالفعل معركته لإقناع ترمب بالاستمرار في الاتفاق النووي الإيراني. ويبدو أن «رهانه» اليوم يميل إلى كفة أن ترمب سيعلن 12 مايو (أيار) انسحابه من الاتفاق. وعليه، يركز ماكرون اهتمامه على ما سوف يلي ذلك. وقد أخبرنا أنه أنجز أمرين مع ترمب: حصل على دعمه لاستمرار «المشاركة» الأميركية في إرساء الاستقرار في سوريا، وحثه على «الانفتاح إزاء إبرام اتفاق شامل جديد» بخصوص إيران -أي «اتفاق أكبر»، حسب تعبير ترمب، يحل محل الاتفاق «البشع» الذي وقّعه الرئيس باراك أوباما، ويستمر لفترة أطول، ويتناول اختبارات الصواريخ الباليستية والسلوك الإقليمي لإيران.
ومن الواضح أن ماكرون يحاول اجتذاب ترمب نحو فكرة كبيرة للغاية، ذلك أنه يتحدث عن صفقة كبرى تجذب جميع العناصر الكبرى -روسيا وتركيا وإيران والسعودية والولايات المتحدة- لبناء هيكل أمني إقليمي يبدأ باتفاق لإحياء سوريا. ولا تعد هذه فكرة جديدة، فقد سبق أن درس دبلوماسيون صوراً منها منذ اشتعال الحرب الأهلية السورية عام 2011.
وبصورة ما، يبدو هذا الأمر محتوماً، فعندما تضع الحرب السورية أوزارها، من المؤكد أنه ستظهر مثل هذه الصيغة. إلا أن التساؤل هنا: ما الذي يمكنه الاضطلاع بمثل هذا المشروع الهائل؟ وهنا، يبدو المزيج القائم بين ترمب وماكرون مثيراً للاهتمام. في الواقع، إقرار صفقة كبرى على مستوى الشرق الأوسط يمثل بالفعل نمط «الاتفاق الكبير» الذي يحلم ترمب بتحقيقه. ومع هذا، فإن الوصول إلى هذا الأمر يتطلب منه معاوناً ذكياً حلو اللسان، لكن دون أن يشكل تهديداً له. وهنا يظهر دور ماكرون.
من جانبه، أخبرنا الرئيس الفرنسي أنه ينظر إلى دوره باعتباره «وسيطاً أميناً» يعمل على تيسير الطريق أمام الدبلوماسية الأميركية مع روسيا وتركيا وإيران.
جدير بالذكر، أنه عندما كان بالطائرة في طريقه إلى واشنطن، أجرى ماكرون اتصالاً هاتفياً بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وبعدما غادر، خطّط للاتصال بالرئيس الإيراني حسن روحاني.
وعندما استمعتُ إلى ماكرون وهو يشرح استراتيجيته، تذكرتُ رجلاً آخر ذكياً وقادراً على تحريك من حوله ونجحت دبلوماسيته في إنقاذ قوة أوروبية كانت في حالة انحسار: الكونت مترنيخ النمساوي الذي صاغ كونغرس فيينا (1814 - 1815)، والذي نجح في إرساء الاستقرار على مستوى أوروبا على امتداد قرابة قرن. وقد وصفه هنري كيسنغر في كتابه «عالم جرت استعادته» الذي نشره عام 1957 على النحو التالي: «كانت عبقريته كامنة في استغلال ما لديه، وليس عبقرية إبداعية. لقد برع في التلاعب والتأثير على الآخرين، وليس في البناء». وكان مترنيخ يفضل «المناورات الخفية على الهجوم المباشر». هل يذكركم هذا الوصف بالرجل الذي زار واشنطن هذا الأسبوع؟
لقد أخبرنا ماكرون أنه يعتبر نفسه مثل ترمب، لأن كليهما يضطلع بدور شجاع داخل نظامه. وربما يمكنه إضافة أن كليهما بارع في الاستغلال، وأن كلاً منهما ربما عثر على سبيل نحو استغلال الآخر.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع